ذهبت إلى الراحل محمود أمين العالم، فى بيته بعمارة إيزيس القريبة من السفارة الأمريكية فى «جادن سيتى»، قبل سنوات معدودة من وفاته، كنت فى ذلك الوقت مع مطلع الألفية الثالثة، ومعى عدد من الشعراء المصريين والعرب نعمل على إصدار مجلة تختص بقصيدة النثر وتقاطعاتها، ولم أكن التقيت بـ«العالم» إلا مرات قليلة فى ندوات عامة بالمجلس الأعلى للثقافة وأتيليه القاهرة، وكان دائمًا ما يدهشنى بحيويته الشديدة وقدرته على استيعاب الاختلاف ومواكبته المستمرة للجديد على مستوى الإبداع والنقد.
هاتفته للحصول على موعد منه، ورحب بمودة وكأننا أصدقاء منذ سنوات، وسألنى عن تصوراتنا حول المجلة التى نعمل على إصدارها ومن أين سننفق على إصدارها، وعندما علم أننى أريده أن يكتب افتتاحيتها، اندهش، ثم سألنى لماذا؟ وكنت أعلم أنه توقف عن كتابة الشعر، وأن ديوانيه الصادرين منذ عقود «أغنية إنسان» و«قراءة لجدران زنزانة» قصائد تفعيلة تحمل رسائل مباشرة وفق مفهوم الأدب الملتزم، لكنى كنت أراهن على وعيه النقدى المتجاوز وقدرته على استيعاب التيارات الإبداعية والفكرية حتى لو اختلف معها جذريًا. واستمر الحوار أكثر من خمس ساعات مع صاحب «فى الثقافة المصرية» و«ثلاثية الرفض والهزيمة» و«معارك فكرية» و«فلسفة المصادفة» و«هربرت ماركيوز أو فلسفة الطريق المسدود» و«الوعى والوعى الزائف فى الفكر العربى»، وغيرها من المؤلفات المهمة، واتفقنا على أن نكتب افتتاحيتنا بأنفسنا على أن يسهم هو بمقال نقدى أو تأملات حول الشعر المعاصر.
ووصلتنى منذ أيام نسخة من الطبعة الجديدة لكتاب الراحل الكبير «فلسفة المصادفة»، والتى صدرت ضمن سلسلة ذاكرة الكتابة عن هيئة قصور الثقافة بتقديم الدكتور أنور مغيث، وهو كتاب فريد ومؤسس فى الفكر العربى الحديث، أنجزه الراحل كبحث لنيل درجة الماجستير من جامعة القاهرة عام 1953 ولم يصدر فى كتاب إلا بعد سبعة عشر عامًا، وهانحن أمام طبعة ثانية مزيدة بمقدمتين وتمهيد. ويظل هذا الكتاب من بين كتب محمود العالم مشروعًا فكريًا مفتوحًا على المستقبل، وينتظر الإضافة والاستكمال، بهدف تحقيق الخلاص للعلم من سيطرة النزعات اللاهوتية والأسطورية والانعكاسات النفسية والذاتية.
ومن خلال التتبع التاريخى لمفهوم المصادفة يكشف الكتاب فى الجزء الأول منه أن الفهم الموضوعى للمصادفة لا يتحقق إلا بزوال الدلالات الأسطورية والذاتية واللاهوتية والتفسيرات السطحية المباشرة فى النظرة إلى الواقع، فيما يعنى الجزء الثانى من الكتاب بتحليل المدلول النظرى لحساب الاحتمالات والفيزياء الحديثة.
سيادة مفهوم «المصادفة الموضوعية» كأساس للفيزياء الحديثة فى نظر محمود أمين العالم لا يعنى عجز العقل الإنسانى عن السيطرة على الواقع الخارجى سيطرة نظرية وصناعية، بل إن العقل خلال معرفته بقوانين المصادفة وتحديده لضروراتها يحقق سيطرته على الواقع ويجعل من إمكانات المصادفة ظواهر موجهة، كما أنه تحرير للمنهج العلمى من الغيبية والسطحية والتبسيط وإقامته على أساس موضوعى جديد يمكن التعامل معه رياضيًا وفق حساب الاحتمالات.
محمود العالم كان يسعى فى هذا الكتاب وفى مجمل عمله النقدى والفكرى إجمالًا، إلى تحرير العقل العربى والتوجه إلى التعامل مع قضايانا الأكثر إلحاحًا وفق نوع منضبط من التفكير العلمى، خاصة أننا نتعثر منذ قرون فى الانتقال من طور المجتمعات البدائية التى تحكمها الخرافة والسحر من ناحية وسطوة التفسيرات الدينية المتطرفة، إلى المجتمعات المدنية الحديثة، وكم شهدنا خلال القرنين الماضيين من محاولات تلفيقية لتطويع النظريات الغربية والشرقية لبعض المفاهيم الرجعية لاستحداث مناهج تفكير ترضى غرورنا الزائف وتمنحنا شعورًا زائفًا بأننا أضفنا إلى الفكر الإنسانى الحديث وأننا لسنا مجرد مستهلكين مفتقدين حتى للأمانة فى الاستهلاك ونسبة الفضل لأهله.
لو كان الراحل محمود أمين العالم بيننا الآن، لكتب مقدمة جديدة يشتبك فيها مع كل البدائيين والجاهليين والتلفيقيين والغائبين المغيبين عن الزمن الحاضر، ولأكد مجددًا أن خلاصنا فى المنهج العلمى الصارم المنضبط وفى البناء على ما تحقق للإنسانية من أساس منهجى، والعمل بجد واجتهاد للإضافة إلى ما تحقق بدون عقد نقص أو شعور بالدونية يحكم مناهجنا الملفقة.