لماذا خلق الله الكون؟

لماذا اتخذ الله قرار الخلق من العدم ابتداءً؟
يالقسوة هذا السؤال على النفس! إنه بلا ريب أكثر الأسئلة عصياناً على الإجابة بل هو يبطش بالعقول، كل العقول مجتمعة بلا هوادة فلا يبقي ولا يذر ولا يترك فيها حجراً على حجر
أقول باختصار غير مبهم وباختزال غير مخلّ أن كل من انبرى مجيباً على هذا السؤال مدعياً اليقين فهو ولا شك كاذب أو جاهل.

تتمثل أكبر معضلة في السؤال في الجهل التام بماهية العدم، حيث اللازمان واللامكان واللاشيء واللاحيث، وعليه فإن تقييم الحدث (الخلق من العدم) يستحيل يقيناً على استيعاب العقل البشري المحدود قدراً وقدرة ويستطيل عالياً عن إحاطة وعينا البشري القاصر.

عذراً عزيزي القارئ فلا أنا ولا غيري يملك الإجابة الصحيحة على هذا السؤال إلا اتباع الظن وإن الظن لا يغني عن الحق شيئاً ولكن حتى ولو لم نُحِط بالاجابة الصحيحة علماً فعلى الأقل ربما نعرف الإجابات الخاطئة.

فكل تصور عن الإجابة متأصّل على فكرة "الانتفاع الإلهي" من عملية الخلق نفسها أو من منتجات تلك العملية (المخلوقات) هو بالتأكيد تصور خاطئ وينتج إجابات خاطئة. فالانتفاع مناطه الاحتياج والاحتياج مناطه النقص وحاشا لله الكامل سبحانه أن يعوزه شيء.

تصورات على نحو: "كان الله وحيداً فقرر أن يخلق" أو "خلق الله المخلوقات كلها لعبادته" - تنطلي على إهانة للذات الإلهية ولا تخلو من اسقاط سيكولوجية النفس البشرية على ذات الله، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. فالتصوران يوحيان ضمنياً أن عملية الخلق أو منتجاتها له تأثير مباشر على الله ذاته سبحانه وذلك بلا شك يخالف فرضية الكمال في الله وعليه فإن أي تصور يُبنى على انتفاع الله بالخلق أو بالمخلوقات هو بالضرورة خاطئ. ومن هنا ربما يتبقى لنا محوران، الأول هو أن يتساوى الخلق وعدم الخلق وبالتالي يفقد السؤال معناه أصلاً أو ربما تكون الإجابة ببساطة "ولماذا لا يخلق؟"
ولا أتصور أيضاً من يقول بالمساواة بين الخلق والعدم (أو عدم الخلق) من حيث الحدث والقدرة والنتيجة وعليه فهذا المحور ربما يكون مستبعداً أيضاً.

لم يترك لنا هذا إلا محوراً واحداً وهو أن الوجود (بإنواعه) هو أفضل من العدم، وقد قال بذلك الفلاسفة قديماً، وإن لم يخلُ ذلك من تحليل مبالغ فيه على نحو السؤال عن محددات "الأفضلية" وكيفية قياسها إن لم ندرك ذلك "العدم"، ولكن ربما يكون هذا ما قد اجتمع عليه الفلاسفة ببساطة لأننا لا يمكننا اثبات العكس، أو ببساطة أكثر لأن كلّ منا يسقط تلك المقارنة على وجوده هو شخصياً من عدمه، فالإنسان بالطبع يفضل وجوده على عدم وجوده ويفضل البقاء نوعاً بالتوالد والتكاثر عن عدم التكاثر والتزايد، وهذا باستثناء الحالات الشاذة كالانتحار والأمراض النفسية والعقلية أو حتى المعاناة البالغة من قسوة الحياة وغيرها التي لا تسن قاعدة.

ومع افتقارنا للإجابة الصحيحة فمازلنا قادرين على تصورات لإجابات ربما تحوم في فضاء الحقيقة بعد استبعاد الاجابات الخاطئة أعلاه. تلك التصورات ممكنة عبر المرور بأسئلة أخرى تمهيدية لذلك السؤال الأكبر على نحو:
هل كان الكون أول مخلوقات الله أم أن الله سبحانه لم يتوقف عن الخلق أصلاً وخلقه أزلي سرمدي؟
هل عملية الخلق هي نتاج مباشر لالتقاء المشيئة والإرادة والقدرة على الخلق ولا يسأل عما يفعل سبحانه وهم يسألون؟
هل يخلق الله سبحانه لأن صفته الخالق ولا يعقل أن يكون خالق ولا يخلق، والخلق هو إبراز لتجليات صفة الخالق؟
هل كان خلق الكون مجرد تمهيد لخلق الانسان؟ هل غاية الكون بموجوداته الاجابة عن بعض الإسئلة الكلية التي تعرض للإنسان؟ هل حجم الكون يتناسب طردياً مع قدرات العقل البشري الكبيرة والتي لم يدركها الانسان بعد؟
هل كان للإنسان ان يصل بعقله المجرد لوجود خالق كلي القدرة وكلي العلم والحكمة لو لم يكن الكون بهذا التعقيد وهذا الاتساع؟


ربما تدور تلك الأسئلة فعلاً في مدار الإجابة المنشودة وربما كان السؤال فاسداً في ذاته أصلاً بسبب غياب القواسم المشتركة بين الوجود والعدم المحددة لقياس أفضلية أحدهما على الآخر وبالتالي تدك أساس السؤال عن السبب الذي ينطلي على البحث وراء الغائية والمبرر.

ولكن مهلاً، لم كل هذا الجهد في البحث؟ ما هي قيمة الإجابة فعلياً بالنسبة لي ولك؟ هل هو المزيد من اليقين؟ إن الدين بالفعل به العديد من الغيبيات وهذا هو مناط الإيمان أصلاً أن نكون على يقين بقصور عقولنا ووعينا يقيناً يسمح لنا بطيب نفس أن نتقبل هامشاً من الحقائق الغائبة غير المؤثرة فعلياً في عاجل أمرنا وآجله.

لا بأس أن نفكر فيها وفي غيرها ولا داعي للخطوط الحمراء ولكن في النهاية إن لم تصل للنتيجة المرغوبة فلا تقسُ على نفسك فيكفيك التفكر فهو شرف العقل. واعلم أنه ليس عليك إدراك كل الحقائق سواء ما تعلق منها بالإيمان أو حتى بأي قضية فلسفية أو علمية أخرى ولكن وبالتأكيد عليك التفكر دائماً والسعي العقلي. ليس لزاماً على الله أن يطلعنا على كل ما نجهل وليس لزاماً عليك أن تدركه ولن تسأل عما جهلت.

ربما نعلم الإجابة في حياتنا هذه وربما نعلمها في الحياة الأخرى وربما لا نعلمها إطلاقاً، ولكن أياً كانت الإجابة فهي بالتأكيد تنطلي على حكمة أكبر قدراً من كل الأكوان وأكثر عدداً من كل المخلوقات. سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;