لا يوجد شعب بلا لغة ولا توجد حضارة بلا أبجدية.. الحروف هى التى تشكل الفكر والشخصية والقومية.. المرادفات والمعانى هى التى ترسم فينا التاريخ والهوية.. لذلك حينما فرطنا فى لغتنا العربية ضاعت منا الأرض والعقيدة وتشوهت معانى الوطنية.. قد يبدو كلامى مبهما للكثيرين الذين لا يدركون أهمية اللغة فى صناعة الشعوب وتأكيد أصولها ونحت أفكارها رغم أن ابن خلدون فى قراءته لعلوم الاجتماع والفلسفة أثبت أن اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة فإذا ضعفت اللغة اندثر الفكر وإذا ضاع الفكر ماتت اللغة وإذا انطمست ملامح هذه العملة يختفى الوطن من على الخريطة، ونحن فرطنا فى لغتنا بحماقة عجيبة رغم أنها لغة القرآن الفريدة التى اختصها الله سبحانه وتعالى بكلماته التى لا يخرج منها الباطل أبدا.. تعاملنا معها بشكل رخيص مهين، فتلاعبنا بمعانيها ومفرداتها وسخرنا من عبقريتها وحولناها إلى لسان باهت تتضارب فيه المعانى وتنقلب فيه موازين الكلمات وتتداخل فى عباراته اللغات الأجنبية ليصبح مسخا بلا قامة ولا قالب، مجرد أداة للتواصل أقرب إلى (التهتهة).. أعلنا باستخفاف عن ضجرنا بالصرف والنحو وقواعد الإعراب.. شجعنا أولادنا على ذم اللغة ووصمها بالتعقيد والجمود وعدم مواكبة العصر والعلم.. افتخرنا بإتقاننا التمثيلى الأجوف لبعض اللغات الأجنبية لنعوض نقصا نفسيا وشذوذا حضاريا لم أستطع أن أفهم حتى اليوم أسبابه.. فهل نفخر بالمستعمرين مثلا وبآثارهم فينا أم نشعر بالدونية أمام لغات لا هى منا ولا نحن منها وتصورنا أن إتقانها سيخرجنا من فصيلة النسانيس ويجعلنا بشرا؟.. لم ندرك أنه حتى النسانيس لها لغة تحافظ عليها وعلى هويتها وأننا أصبحنا أشبه بالفصيلة التائهة التى قطعت جذورها وهرولت لتزرعها فى أرض غريبة.. يا الله.. نحن خير أمة أخرجت للناس نستهين بلغة القرآن ونفعل بها ذلك.. حتى بدت معانى الكتاب العظيم مبهمة لأغلبنا ومجهولة لأبنائنا وأصبح نطقها الصحيح عند أغلبية المسلمين شبه مستحيل.. وبعد ذلك نسأل ماذا حدث للقومية العربية وكيف ضاع منا الانتماء والهوية ونبكى ونلطم على سقوط بغداد ودمار دمشق وموت اليمن واستحلال الغرب لليبيا.. هو عقد مجدول يا سادة فرطنا فى حلقاته فسقطت مجوهراته وتهلهلت أوصاله، وكان أول ما فرطنا فيه هو لغتنا العربية ومازلنا.. أنا لا ألومكم أو أعاتبكم بقدر ما أوبخ نفسى.. فأنا كنت أحمق كالكثيرين وسعيت وضحيت لأن يدرس أبنائى فى مدارس أجنبية ومناهج إنجليزية أو أمريكية، والآن أبكى على حال لغتهم العربية وهويتهم وشخصيتهم التى فقدت أصولها وتشبهت بأصول غيرها.. لهجتهم الباهتة وأفكارهم المشوشة وانتمائهم المهتز بين تاريخ أجنبى يدرسونه فى فخر وتاريخ عربى يعيشون انكساره.. جيل تائه ومرتبك لا يعرف هل الغرب أعداؤه أم معلموه؟ هل لغته هذا الإسفاف الذى يسمعه فى وسائل الإعلام والشارع أم اللغة الأجنبية الرزينة التى يتعلمها فى المدارس؟.. يا ربى كيف وقعنا فى هذا الفخ؟.. وكيف أجبرنا نظام تعليمنا الفاشل على أن ندفع عصارة أعمارنا لنعلم أطفالنا أن يستهينوا بحضارتنا وتاريخنا ولغتنا.. فياولينا من القادم فلقد زرعنا العدو فى بيوتنا.. أرجوكم حاولوا معى.. علموا أولادكم العربية.. لم يفت الوقت بعد ولن نسامح أنفسنا على هذا الغباء لو استمر.. توقفوا عن (الفشخرة) العبيطة بالكلمات الأجنبية.. حاولوا أن تفتخروا بأصولكم ولغتكم وعقيدتكم أمام أبنائكم.. صححوا نطق لسانكم وقوموا أفكاركم.. حدثوهم عن تاريخ عروبتهم بعلمائها وفلاسفتها ورموزها العظيمة.. اشرحوا لهم أن الإعجاز فى القرآن ما كان إلا بالإعجاز الذى وهبه الله لهذه اللغة.. لغة الضاد الأغنى بالمعانى والتضاد والمرادفات.. لغة الرحمن الرحيم، اللغة الوحيدة التى تترجم الكلمة فيها بعبارات والحرف فيها بكلمات.. شجعوهم على أن يبرعوا فى فهمها والإحساس بوقع كلماتها واختلاف المعانى فى ألفاظها.. توقفوا عن استخدام الأسماء الأجنبية والمكاتبة بالإنجليزية والفرنسية أو تلك الكتابة المشوهة الممسوخة ذات النطق العربى والحروف اللاتينية..حفزوهم على سماع الشعر والموسيقى العربية وقراءة الأدب والتراث العربى حببوهم فى أصولهم وجذورهم لأن الوضع كريه ويدعوهم للنفور، فاطرحوا عليهم بدائل أجمل وأرقى علهم يفهمون ويتقبلون.. لن يسامحنا الله ولا التاريخ على ما فعلناه بهذه اللغة العظيمة شعوبا وحكاما على مر عقود طويلة.. ولن تسامحنا هذه الأجيال التى خرجت إلى الحياة مشوهة الملامح بلا فكر أو هوية، بلا عروبة أو عربية.. فكيف نسألهم الآن عن الانتماء والوطنية؟!!