كان المشهد مبهرًا فى حفل قرعة كأس الأمم الأفريقية الذى أقيم الجمعة الماضى، تحت سفح الأهرامات، بحضور قارى ودولى مميز، كان التنظيم رائعًا فى ليلة قاهرية صافية، كل شىء محسوب بدقة، التكامل بين كل جهات الدولة كان واضحًا تنطق به كل لمسة وضعت فى مقر الاحتفال الذى كان يضاهى أكبر حفلات القرعة للبطولات الدولية وفى مقدمتها قرعة كأس العالم فى روسيا 2018.
الفارق الوحيد الذى تميزت به مصر فى حفلها هو المشهد القادم من التاريخ، مشهد الأهرامات التى احتضنت الحفل وأبو الهول الذى بدا وكأنه حارسا أمينا على ضيوف مصر، سألت نفسى وأنا أتابع الحفل والمشهد العبقرى يتصدر الشاشات والمواقع فى كل القارات، هل كان أجدادنا الفراعنة «خوفو وخفرع ومنقرع وغيرهم»، وهم يشيدون هذه الحضارة ويبنون الأهرامات وينحتون أبو الهول يدركون أنهم وبعد كل هذا العمر سيظل ما شيدونه مصدر الفخر لنا وسببا من أسباب النجاح وباب رزق لا يتوقف؟
هل كانوا يدركون أن كل حجر وضعوه فى بناء دولتهم سيكون مصدر سعادة لنا بعد أكثر من ثلاثة آلاف عام؟
الأهم.. هل ونحن نفتخر بالأهرامات وحضارة الأجداد ونصدرها كل حدث مصرى نعلم أننا نعيش فى خير هؤلاء حتى الآن، وأن دولة الفراعنة لأنها أسست على ثوابت وحضارة حقيقية ظلت باقية نحصد نحن ثمارها جيلا بعد جيل، سواء فى سياحة لا تتوقف عشقا فى التعرف على هذه الحضارة، أو ارتباط ثقافى وتاريخى تخلقه تلك الآثار، أو تباهى نراهن عليه فى كل المناسبات والأحداث الدولية؟
هذا هو معنى الحضارة الحقيقية.. وهو قيمة أن تقيم دولة حقيقية، من بنى الأهرامات لم يكن بيننا فى حفل القرعة القارى، ولا يدخل جيبه مليما واحدا مما تدره يوميا من ملايين الدولارات، لكنه يقينا سيكون سعيدا لأنه مصدر سعادة دائمة لشعب كامل، ولأنه أيضا أقام دولة بقيت كل هذا العمر.
وهذا ما توقفت عنده، الفارق بين من أرادوا مجدا شخصيا ومن بحثوا عن بناء الدولة، فالباحثون عن مجد شخصيا انتهى مجدهم ونسيهم التاريخ وإن تذكرهم فبسبب أنانيتهم وأطماعهم، أما من سعوا لإقامة دولة سواء فى مصر أو أى مكان آخر فى العالم فبقيت دولهم كحضارة إنسانية يتباهى بها أحفادهم، مثلما نتباهى ونحتفى بدولة أجدادنا العظماء.
وهنا تبقى قيمة الدولة وعظمة من أقامها، وكما يعلمنا التاريخ، فالأشياء العظيمة لن تنتهى بل ستظل مستمرة ما دامت البشرية، وكل من أراد أن يقيم دولة بعيدًا عن الشخصنة وحب التمجيد قد لا ينال حظه فى عصره، وقد تظلمه الظروف وتغبنه حقه الصراعات السياسية والمؤامرات، لكنه يقينا سينصفه التاريخ وسيكتب اسمه بين البنائين وصناع الحضارة والعظماء.
هذه حقيقة مؤكدة يعلمها كل من تصفح التاريخ وراجع تجارب البناء، لكن يبقى السؤال.. ألم يعد لدينا الخبرة التى تجعلنا قادرين على استقراء التاريخ وإدراك الفارق بين من يبنى لشخصه ومن يحفر فى الصخر لبلده ومستقبله وحق الأجيال القادمة؟
هذا ما يجب أن نكون على وعى به، فنحن شعب ولد فى حضن الحضارة واكتسب من جدرانها خبرات عميقة تجعله مؤهلا لهذا الفكر الذى ينصف أصحاب الهمة والوطنية ويساند البناء الذى ينقلنا للمستقبل، وينظر إلى الأجيال القادمة، بدلا من أن نترك أنفسنا لمن يريدونها دولة أطلال لا بناء فيها ولا حضارة، يريدون أن نترك للأجيال القامة خرابا وعبئا ثقيلا..
تعلموا الدرس من الأجداد تعلموا قيمة البناء..