نيويورك الساحرة

أقع من حينٍ لآخر على أشخاص يقولون إنهم لا يحبّون أمريكا. في نظري، مَن يطلق مثل هذا التصريح أشبه بمن يقول إنه يكره العالم. فالولايات المتحدة هي من الدول الأكثر تنوعاً على وجه الأرض، إنها بوتقة انصهار للأعراق والأديان والثقافات التي تجتمع معاً في ظل علمٍ واحد. أمريكا هي أكثر بكثير من حكومتها أو سياساتها الخارجية المثيرة للجدل أحياناً. لكل مدينة نكهتها وأجواؤها الخاصة، لكنها تتشارك كلها دفء الترحاب الذي يخصّ به الأمريكيون الزوّار. إنهم شعبٌ ودود ولطيف، ومن خلال تجربتي معهم، لا يألون جهداً لجعلي أشعر بالارتياح. ويبذلون كل ما بوسعهم لإرضاء السياح على اختلاف جنسياتهم، إدراكاً منهم لدور السياحة في استحداث الوظائف وتحقيق الفوائد الاقتصادية. وبغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، إنهم وطنيون ويفتخرون بأنهم مواطنون في الدولة الأغنى والأكثر نفوذاً في العالم. لقد عبرتُ الولايات المتحدة من شرقها إلى غربها مرات لا تُحصى، وما زلت أشعر دائماً بالدهشة أمام تنوّع المناظر الطبيعية والمأكولات واللهجات والمناخات، ناهيك عن أنها تحتضن بعضاً من أجمل الروائع الطبيعية على وجه الأرض. قد لا يكون الأمريكيون في المراتب الأولى بين الشعوب الأكثر سفراً وترحالاً في العالم، فما يزيد عن ستين في المئة منهم لا يمتلكون جواز سفر ساري المفعول، لكن لا عجب في أن كثراً منهم يختارون استكشاف وطنهم الأم بدلاً من تمضية عطلة في الخارج، وذلك نظراً لما تقدّمه لهم بلادهم بدءاً من سهول التندرة الجليدية في ألاسكا مروراً بأشجار النخيل المتمايلة في فلوريدا الاستوائية ووصولاً إلى الكثبان البرتقالية المهيبة في صحراء موهابي. لا شك في أن كل من تنقّل مرات عدة في أرجاء الولايات المتحدة لديه أماكن مفضّلة يتردد إليها باستمرار؛ في ما يتعلق بي، مكاني المفضل هو مدينة نيويورك. ما إن تذوّقت طعم "التفاحة الكبرى"، كما تُسمّى مدينة نيويورك، قبل سنوات طويلة حتى أصبحت مدمناً عليها. إنها نابضة بالحياة والطاقة ليلاً نهاراً. إذا استيقظت عند الساعة الثالثة فجراً، ترى أشخاصاً يمارسون رياضة الركض أو يُسرعون للوصول إلى عملهم. المشاهد والأصوات غير المألوفة تُحفّز الحواس. يتكلم أبناء نيويورك بصراحة من دون مواربة. لا يضعون أقنعة اجتماعية، وهو أمرٌ أجده مريحاً ومنعشاً. أستمتع بتبادل أطراف الحديث مع الغرباء أو الجلوس ببساطة في مقهى ومراقبة ما يجري من حولي. منذ بضعة أيام، كنت أتناول وجبة الغداء في أحد المطاعم في نيويورك، وقد أدهشني ما رأيته من تنوّع شديد لدى أرباب العمل الذين يمثّلون عدداً كبيراً من الأعراق والألوان والأديان. كان بعضهم يرتدون ثياباً عصرية، وآخرون يتحلون بأناقة محافظة، فيما بدا آخرون غرباء الأطوار وفقاً للمواصفات المتبعة ربما في منطقتنا. على الرغم من هذه التباينات، لم يبدُ أي منهم نافراً وفي غير مكانه المناسب؛ بل على العكس تماماً كانوا يشكّلون معاً مزيجاً متناسقاً. قبول الآخر، والتسامح، والحرية التى يتمتع بها المرء ليعيش كما يحلو له، هذه هي المزايا التي تجعل من نيويورك رمزاً لأفضل الصفات التي تتحلّى بها أمريكا. لنيويورك عيوبها وشوائبها، شأنها في ذلك شأن مختلف المدن الكبرى. لا تبحثوا عن الكمال. يجب التعامل مع المدينة كرزمة متكاملة. إنها مركز قوة يستقطب فاحشي الثراء والعاملين في القطاع المالي والديبلوماسيين والنجوم السينمائيين والاختصاصيين في القطاع التكنولوجي، والأشخاص اللامعين والمتألقين في مجالاتهم، فضلاً عن كوكبة كبيرة من المحامين البارزين. وفي الوقت نفسه، تعد نيويورك المدينة ذات الكلفة المعيشية الأغلى في البلاد. فكلفة المعيشة للأشخاص الذين يقطنون في منهاتن أعلى بنحو 137 في المئة بالمقارنة مع الأماكن الأخرى في الولايات المتحدة. للأسف، يعيش أكثر من 630000 من سكان نيويورك بلا مأوى، وبعض المناطق في المدينة تحتاج إلى ترميم كامل. ومع ذلك، توفر المدينة تتيح فرصاً لا نظير لها لأولئك المتعطشين إلى عيش الحلم الأمريكي الشهير ولمَن يتحلون بالمثابرة والتصميم الكافيَين لتحقيق هذا الحلم. وأنا من أشدّ المعجبين بأخلاقيات العمل التي يلتزم بها أبناء نيويورك؛ فهم يعملون بكد واجتهاد، كما أنهم يتحلون بالانضباط الذاتي ويفتخرون بكل ما يفعلونه. لا أكتفي أبداً من نيويورك مهما تكررت زياراتي لها أو مهما طالت فترة إقامتي فيها. لطالما ألتقي أشخاصاً رائعين، وأغادرها مع شعور بالنشاط، ومحمَّلاً بأفكار ومشاريع جديدة. لقد توجّهت هذا الشهر كما في الأعوام السابقة إلى نيويورك للانضمام إلى وفد إماراتي رفيع المستوى دعماً لماراثون زايد السنوي الخيري الذي يساهم في التوعية حول أمراض الكلى. ويعود ريعه لمؤسسة الكلى الوطنية الأمريكية تقديراً للدور الذي لعبته الولايات المتحدة حيث خضع مؤسّس الدولة، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، لعملية زرع كلية. ماراثون زايد هو من المحطات الأساسية على روزنامتي لأنه يعكس فضيلتَي التسامح والاحترام الساميتَين اللتين تميّزَ بهما هذا الرجل العظيم، كما أنه خير تجسيد لإنجازاته المشرِّفة لا سيما أعماله الخيرية داخل الإمارات العربية المتحدة وخارجها. أقدّر جداً الحب الكبير الذي أغدقه على شعبه والعالم، وأحرص دائماً على حضور الماراثون إلا إذا استجدّت ظروفٌ طارئة وغير متوقّعة، وإصراري على المشاركة نابعٌ من دوافع عدة. الدافع الأول هو الرغبة في توعية الأمريكيين حول أمراض الكلى التي هي في معظم الأحيان من مضاعفات الإصابة بداء السكّري الذي ينتشر في دول الخليج والولايات المتحدة. وهي قضية تستحق بلا شك إيلاءها اهتماماً بالغاً. ثانياً، آمل بأن أُلهِم الشباب الإماراتيين الذين يتابعون تحصيلهم العلمي أو يعملون في الولايات المتحدة كي يدركوا أهمية دورهم الذي يجعل منهم سفراء غير رسميين لبلادهم، ولا يغفلوا أبداً عن المبادئ التي تقوم عليها الإمارات، وتتمثّل في السخاء والأخلاق الحميدة وحسن الوفادة. والدافع الأخير هو الاحتفاء بحياة الشيخ زايد، هذه الشخصية الرؤيوية التي يعود إليها الفضل في تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة وتحوُّلها منارةً مشرقة للتقدّم في هذه المنطقة المضطربة. حسناً، سأكون صريحاً. أمضي وقتاً ممتعاً في الماراثون، شأني في ذلك شأن جميع المشاركين. إنه يوم رائع في الهواء الطلق. وتتسنّى لي فرصة لقاء بعض الأصدقاء القدامى، كما أنني أضحك لرؤية بعض أعضاء فريقي الذين تنقصهم اللياقة البدنية يلهثون من شدة الإنهاك أثناء العدو في المضمار، ويمتلئ قلبي فخراً واعتزازاً لرؤية عدد كبير من العدّائين يرتدون قمصاناً تحمل صورة العلم الإماراتي. هل شاركتُ في العدو في الماراثون؟ عذراً، لن أفصح عن الأمر. تجمع نيويورك بين الرائع والجيد والقبيح، هذا هو السر الذي يجعل من هذه المدينة المذهلة التي هي أشبه بصورة مصغَّرة عن عالمنا، مكاناً آسراً للغاية. وأنا سعيدٌ بأن أكون أسيرها. سوف أعود إليها بإذن الله!



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;