بمناسبة عائض القرنى واعتذاره، يدهشنى اندهاشك يا عزيزى من طائفة الدعاة والمشايخ الذين قالوا لك بالأمس، إن هذا حرام لا تقربه، ثم عادوا ليخبروك بأن ما كان حرامًا بالأمس، حلال حلال بلاشك، وتصدمنى صدمتك فى الشيخ فلان، أو الداعية علان الذى أفتى لك بأن هذا الفعل حلال، ثم عاد ليخبرك فيما بعد بأن نفس الفعل الذى كان حلالًا بالأمس، تم تحريمه اليوم، وأتعجب يا صديقى من تعجبك الشامل من طائفة رجال الدين وشدة جرأة بعضهم فى تغير فتواه طبقًا لمصلحة شخصية أو مصلحة من يخدمه.
قل ولا تقل، قل رجال اللعب بالدين ولا تقل رجال الدين، قل تلك عادتهم وهذا تاريخهم إلا من رحم ربى ولا تضحك على نفسك ولا الناس، وتقول بأن ما فعله الشيخ فلان الفلانى استثناء أو غفوة أو سقطة، تاريخ رجال الدين أو من لقبوا أنفسهم بهذا اللقب عنوة أو سرقة أو نصبًا مع التحريم والإيجاز وفقًا للمصلحة طويل وممتد وحان وقت تعريته وكشفه، رغم أنه مفضوح ومكشوف بتصرفاتهم وتناقضاتهم.
فى زمن المماليك كان السلطان أبو المعالى يحكم مصر، استيقظ من نومه ذات يوم، وقرر أن يستدعى بعض المشايخ ورجال الدين لأمر مهم.
ثار القلق فى مجلس المشايخ بسبب الاستدعاء المفاجئ، وهبوا لتلبية دعوة السلطان الذى استقبلهم فى مزاج عكر وأجواء غاضبة، ثم تحدث وزيره «منجك»، قال للشيوخ «إن السلطان يريد فتوى شرعية تجيز له الإفطار فى شهر رمضان».
لحظات من الصمت ارتبك فيها المشايخ وتلعثم رجال الدين، قال بعضهم لا يوجد حل، وقال بعضهم الآخر «إن أراد أن يفطر فليفعل دون فتوى شرعية، لم تعجب تلك الردود السلطان ولا وزيره، ثم تقدم واحد من رجال الدين الماهر فى التلاعب، وقال للسلطان وجدته: يا مولاى السلطان الشرع أجاز لمن كان على سفر أن يفطر فى رمضان، لذا فلنعلن فى البلاد أن السلطان سيقوم برحلة إلى سواحل دمياط والإسكندرية ورشيد لتفقد القلاع والحصون وأحوال الرعية، وبالتالى يصبح الإفطار جائزًا
هكذا فعل عائض القرنى ببساطة لا تتناسب أبدا مع الجريمة التى ارتكبها هو وشيوخ وأعضاء حركة الصحوة، أقر القرنى بأنه نشر أفكارا خالفت الكتاب والسنة وسماحة الإسلام وضيقت على الناس وحرمت مظاهر الفرح وقسمت المجتمع ودفعته لتكفير بعضه البعض ونشر خطاب دينى قائم على الغلظة والتعذيب والنار.
يعترف الرجل بكل هذه الجرائم، ثم يخرج معتذرا مبررا خطابه الجاهلى التكفيرى بأنه ناتج حالة عدم نضج، دون أن يخبرنا عن الكيفية التى سيعالج بها عقول الملايين التى سيطرت عليها تلك الأفكار المتطرفة، كيف سنعالج الآثار الجانبية لهذا الاعتراف ما بين محاولات إنكار ستأخذ أصحابها إلى تشدد وتطرف أكثر، أو صدمات تأخذ أصحابها إلى فقدان الثقة واليقين فى رجال الدين والدين ذاته، وتأخذ أصحابها إلى عالم الشك والإلحاد.
تلك هى أزمة شيوخ ورجال الدين الذين جعلوا من الإسلام جماعات وحركات وتيارات وأحزاب سياسية، يتلاعبون بالقرآن والسنة وفق المصلحة وهوى أصحابها إن كان التشدد والتطرف يخدم مصالحهم تلاعبوا بكل أية وكل حديث ليجعلوا الدين كله كما الخادم لمصلحتهم وأفكارهم، وإن خاب مسعاهم وضاقت عليه دنيا السياسية عادوا للسير فى طريق الأسف.
ليس غريبا أن يكون عائض القرنى جزءا من التربية الإخوانية الانتهازية التى تستغل الدين ولا تسعى لرفعته أو نشر تعاليمه السليمة، بل لا يمثل الدين لهم سوى أداة يتم استخدامها لتحقيق أغراض سياسية وخدمة مصالح من يدفع أكثر، ظهور حركة الصحة فى 1979 كان مرتبطا بتواجد إخوانى نافذ فى المملكة العربية السعودية، وهذا النفوذ الإخوانى فى قلب حركة الصحوة أنبت فى عقول أعضائها انتهازية الإخوان وكان مؤثرا فى تأسيس الحركة تنظيميا.
والصحوة التى تنتهى اليوم باعترافات عائض القرنى، ظهرت فى الأساس بتشجيع من الملك فهد بالتزامن مع إعادة ترتيب أوراق المشهد السياسى الإقليمى والدولى عام 1979، بنجاح الثورة الإيرانية الخُمينية، والغزو السوفييتى لأفغانستان، واحتلال الحرم المكى بقيادة جهيمان العتيبى، وصعود المد الدينى الشيعى، وتلك خطيئة أهل السلطة المتكررة على مر العصور كلما تبعثرت أوراق اللعبة لجأ إلى الدين العامل الأكثر تأثيرا فى الشعوب وتحديدا شعوب المنطقة، يظن فى البدء أن هؤلاء المتطرفين سيدفعون عنه هجوم الأفكار والتيارات الأخرى، وسرعان ما يكتشف فى نهاية المشهد أنهم انتشروا وتسربوا وتوغلوا فى مفاصل الدولة وعقولها ونشروا تطرفهم حتى أصبحوا خطرا على السلطة التى دعمتهم فى البداية.
ما فعله عائض القرنى وإعلانه خطأ تلك الأفكار المتطرفة التى نشروها فى عقول الناس، لا يمكن تصنيفه تحت قائمة الاعتذارت، لأن الاعتذار لا يكفى لمحو آثار تخريب عقول أمة والتلاعب فى شريعتها ودينها، كما لا يمكن تصنيفه على أنه مراجعة فكرية، لأن مثال عائض القرنى وقيادات الإخوان وعناصر الصحوة وغيرهم ليسوا علماء ولا أصحاب أفكار هم أصحاب منهج مزيف قائم على التلاعب وتزييف الوعى لخدمة أغراض ومصالح معينة، وتراجعهم عن تنفيذ ذلك لا يعبر إلا عن ضعف مرحلى وخضوعهم لسطوة سلطة، أو أنهم قرروا إرساء عطاء خدماتهم على كفة أخرى رأوا أنها الفائزة.
الحقيقة الواضحة فى اعترافات عائض القرنى هى الفضيحة، فضيحة المنهج الانتهازى الجاهلى لكل جماعات وتيارات الإسلام السياسى، فضيحة الخطاب الدينى المتطرف الذى يتكشف لنا الآن أنه خطاب مصنوع لخدمة أهداف سياسية، وليس جزءا من الدين الإسلامى الذى شوهت صورته ودمرت قيمه فى السماحة والرحمة والحرية بأيدى جهلاء ولصوص جماعات وتيارات الإسلام السياسى.