حين اصطحب الشاب "محسن"، صاحب الصوت الشجى الرخيم، عمه أو قريبه "أبو العلا البشرى" ليشاركه حضور أول اختبار لصوته، حيث يحلم الشاب بأن تصل موهبته للجمهور، لم يكن يعلم أن الأمور على غير ما يرجو أو يتخيل، وسرعان ما تكشفت حقيقة الأمور حين جاءت المواجهة الأولى له أمام الجمهور فى ملهى ليلى، وبدأ الشاب يقدم نفسه لجمهوره بأغنية منقطعة الصلة تماما بالمكان حوله، وحين بدأ يردد:
"إحنا تلاقينا اتنين وأهو انتهينا اتنين.. دا ممكن شخص واحد يبقى ساعات شخصين".
لم يتح له الجمهور الغائب عن الوعى الفرصة ليكمل أغنيته، وبدأ يقذفه بكل ما تطاله يداه، مصحوبا بلعنات من صاحب المكان والراقصة والفرقة، التى سارعت لإنقاذ الموقف، والتغطية على ما جرى، وإصلاح غلطة الشاب المسكين – من وجهة نظرهم – ليعلو لحن يناسب جو الملهى، مصحوبا بأغنية "الهؤة المؤة الزلمؤة.. إن قلت أيوة هقول لأ "، وهو ما استجاب له الشاب محسن مكملا الأغنية الشهيرة.
المشاهد السابقة جرت ضمن أحدث المسلسل الشهير "أبو العلا البشرى"، وهى من نسج السيناريست العبقرى الراحل أسامة أنور عكاشة، والذى جرى تصويره فى العام 1985، وقدم فيه الراحل عكاشة – ككل ابداعاته – تشريحا للمجتمع المصرى والتغيرات الحادة التى تطال مختلف جوانبه، وبينها تلك المشاهد التى قرأ فيها الراحل الاتجاهات التى تنتظر الذوق الفنى، وكأنه كان يرى ما سيؤول إليه الحال الذى وصلنا إليه و تنبأ به عكاشة مبكرا .
أما "الهؤة المؤة الزلمؤة" فإن المفاجئ فيها أنها كانت من كلمات شاعر العامية العملاق الراحل عبد الرحمن الأبنودى، ولحن المبدع عمار الشريعى، وبالطبع غناها الفنان على الحجار الذى كان يجسد شخصية "محسن" ضمن أحداث المسلسل، والثلاثة قدم كل منهم ما هو جاد كلمات أو لحنا وصوتا، ولم يعرف عن أى منهم فى مجاله أنه قدم إنتاجا هابطا أو ركيكا، وعلى الرغم من أن الأغنية تأتى فى خدمة سياق درامى، بل ومناسبة له، إلا أنها أثارت جدلا وقتها، رد عليه الأبنودى قائلا، "أستطيع كتابة أى لون غنائى إن أردت"، واضعا أيدينا على أول الدروس بأن المبدع يستطيع أن يقدم كل ما هو جيد أو هابط – فى المستوى وليس فى الاستقبال والتفاعل الجماهيرى – لكنه وحده من يختار طريقه، ويحدد لنفسه مع أى الفريقين يسير .
الحقيقة أن ما جرى وإن كان – فى السياق الدرامى - انتصارا وقتيا للمقولة المغلوطة "الجمهور عايز كدة "، لكنه لا يعنى انتصارا للمبدأ، فالعملة الجيدة تظل دائما تطرد الرديئة، حتى وإن طفت الأخيرة على السطح زمنا، وإن كان ما جرى يحمل استسلاما أيضا من شاب موهوب للموجة، وسيره فى ركابها سعيا وراء شهرة أو غنى، بعد أن لفظت بيئته ما يقدمه من إبداع جاد، لكن هذا لا يعنى أبدا أن مقولات "الجمهور عايز كدة "أو القارئ عايز كدة" أو "المشاهد عايز كدة" هى مقولات صحيحة على إطلاقها، فالجمهور ما بين مشاهد أو مستمع أو قارئ تستطيع أن تجتذبه إليك بأن تقدم له ما هو مفيد وجاد، وتستطيع أن تغرقه بكل ما هو مسف أو هابط، وهو فى الأغلب إن تقبل الأخير حينا فلن يقبل به طول الوقت وسيلفظه اليوم أو غدا.
الأمر لا يتوقف عند الحالة الدرامية الخاصة بمطرب، لكنه ينسحب على مجالات إبداع عديدة، تتنوع ما بين الغناء والأعمال الفنية والكتابات الصحفية والمواد الإعلامية المختلفة، وجميعها قابل لأن يقدم فى ساحته ما هو جاد أو ما هو هابط .. ويبقى "الاختبار " فى " الاختيار ".