على مدى العقود الأخيرة، لم تنقطع فعاليات الإخوان العامة، وتلك مُفارقة مُثيرة للسخرية، إذ فى الوقت الذى كانت فيه الجماعة تنظيمًا محظورًا وفق اصطلاحات نظام «مبارك» وتوصيفاته، سمح لها النظام نفسه بالظهور العلنى، والمشاركة فى فعاليات اجتماعية وسياسية، وتنظيم حملات تبرّع لصالح فرعها فى قطاع غزة الفلسطينى «حماس»، وتأجير صحيفة «آفاق عربية» من حزب الأحرار؛ لتنطق باسم الجماعة، وإطلاق عدد من المواقع الإلكترونية والجمعيات الأهلية، وتأسيس عشرات الشركات والسلاسل التجارية، وسمح لها أيضًا بمناسبة سنويّة مُوسّعة خلال شهر رمضان، يستضيفها أحد فنادق القاهرة الكبرى، تحت سمع الدولة وبصرها.
كان حفل الإفطار السنوى للجماعة طقسًا تنظيميًّا غرضه إظهار الوجود. ربّما استفاد من أجواء «رمضان» وروحانيته فى انتزاع إقرار ضمنى من مؤسَّسات الدولة بهذا الوجود، لكنه فى حقيقته لم يكن حفلاً روحانيًّا ولا إفطارًا مُجرّدًا، بقدر ما كان مَحفلاً للإقرار بالبَيعة والولاء، وتأكيدًا لسيطرة القلب الصلب فى مكتب الإرشاد على مفاصل الجماعة بكل مستوياتها التنظيمية، جغرافيًّا ونوعيًّا.
عقب الإطاحة بـ«مرسى» وحكومة الإخوان، لم يعد مُمكنًا التعبير عن الوجود، وتجديد الولاء من خلال طقس احتفالى سنوى. فمن ناحية خرجت الجماعة من المشهد السياسى والاجتماعى فى مصر خروجًا خشنًا ومصحوبًا برفض شعبى واسع المدى، ومن ناحية أخرى غيّبت السجون، المُرشد العام محمد بديع، ونائبه الأول خيرت الشاطر، وأغلب الكوادر الكبرى: محمود غزلان وعصام العريان ومحمد البلتاجى وسعد الكتاتنى وغيرهم، بحزمة جرائم واتّهامات لا يُرجى الفكاك منها فى مدى قريب، وتنازع طابور طويل من الحرس القديم وقيادات الوسط، على الإمساك برأس السلطة فى التنظيم، إضافة إلى أن تلك الأجنحة المُتنازعة نفسها لم تكن مُشتبكة فى حلبة واحدة، وإنما تشتَّت شملها فى مسارات ومسالك ومجتمعات نزوح عدّة.
وسط تلك التركيبة، كان فريق النازحين إلى تركيا الأسبق فى ترتيب الصفوف، ووضع أُطر تنظيميّة ومالية وإعلامية تكفل له الظهور المُتّزن وسط تلك الفوضى، فبفضل تركيبة الفريق التى ضمّت رجال أعمال ومراكز مالية، إضافة إلى أن تركيا نفسها كانت مركزًا اقتصاديًّا لحزمة كبيرة من أموال الجماعة، وأيضًا ما تمتَّعت به تلك الكتلة من دعم مباشر من النظام وحزب «العدالة والتنمية» المحسوب على التنظيم الدولى، تمكَّن الأمين العام محمود حسين، وتابعه أحمد عبد الرحمن مسؤول المكتب الإدارى بالخارج، من تخطيط صورة سريعة، تبدو مُتماسكة نوعًا ما، وتوظيف هذا التماسك المظهرى فى استعادة جانب من طقوس الولاء والبيعة.
بدأ الأمر بالإعلان عن برلمان للجماعة فى اسطنبول، ثم إعلان عدَّة حركات فرعيّة، أبرزها «المجلس الثورى» بزعامة مها عزام ومساندة حلفاء من الإسلاميين والناصريين، منهم عمرو عبد الهادى وأحمد حسن الشرقاوى وسليم عزوز، ثم إطلاق حزمة قنوات ومواقع، واستدعاء أيمن نور من بيروت إلى تركيا، ومنحه إحدى القنوات بدون مقابل، وصولا إلى حلقة السلطة الكاملة بتنظيم طقس احتفالى سنوى، ليكون مظاهرة للتعبير عن السيطرة، وإقرارًا ضمنيًّا من الحضور بالولاء والإذعان.. وهكذا بدأ إفطار الجماعة السنوى فى تركيا منذ 2014.
فى الجولات الثلاث الأولى من الإفطار، سعى محمود حسين لإثبات تسيّده وهيمنته على مشهد الجماعة بالخارج، فحرص على دعوة مُمثّلين من كل التيارات الإخوانية والحلفاء. بين 2014 و2016 لم يغب رموز المكتب الإدارى بالخارج، والمجلس الثورى، وقُضاة من أجل مصر، والتنظيم الدولى، والجماعة الإسلامية، والحلفاء من الناصريين والليبراليين، عن موائد «حسين» التى استضافها فندق «أكغون اسطنبول» الفاخر، بل إنه نظَّم رحلات كثيفة لاستقدام مُمثّلين عن مجموعات السودان وجنوب أفريقيا وماليزيا وقطر ولندن وبرلين وواشنطن، وفتح أبواب حفله الضخم لمُمثِّلى كل القنوات والمواقع المحسوبة على الجماعة، مع توجيه دعوات رسمية للرئيس التركى وقيادات حزبه، ورغم اكتفاء «أردوغان» و«العدالة والتنمية» بإيفاد مُمثّلين ثانويين من بلدية اسطنبول وأمانة الحزب بالمدينة، إلا أنهم دعموا تظاهرة الجماعة بقوّة، وهو ما استغلَّه «حسين» وقتها لتصوير الأمر كما لو كان قبولاً رسميًّا من تركيا لهيمنته على مركز التنظيم الجديد.
لم تتغيَّر الصورة حتى رمضان 2016. انتهى الشهر فى يوليو، ولم تكن قواعد اللعبة قد تبدّلت بعد، لكن الشهور التالية حملت مفاجآت مُزعجة وضربات قاسية للأمين العام ورجاله، أولاً بمقتل قائد الجناح المُسلَّح محمد كمال فى اشتباكات مع الشرطة خلال أكتوبر، ثم فشل دعوة «ثورة الغلابة» التى دعمها بقوّة خلال نوفمبر، وقتها بدأ رجال المجلس الثورى والتنظيم الدولى يُبدون ضيقهم من تسلّط محمود حسين وإدارته السيئة، ويُسجّلون ملاحظات مُشينة على ملفّاته المالية، وإنحاز لهم جمال حشمت؛ طمعًا فى القبض على مقاليد الأمور، ودخل العاملون فى قناتى «وطن» و«مكمّلين» على الخطّ، مع تقليص ميزانيتيهما لصالح قناة «الشرق»، واعتقادهم أن «حسين» يُحابى أيمن نور على حساب أبناء الجماعة، خاصة بعد طرده عددًا منهم وقطع رواتبهم، وتعامله كما لو كان يُنفق على القناة وموظَّفيها من ماله، بينما هو يستعبدهم بأموالهم.. وقتها تعاظم الشِّقاق، وبدأ الأمين العام تنقية قوائم المدعوّين لحفله السنوى، متجاهلاً أثر ذلك على اكتمال مشهد السيطرة والولاء.
فى الموسمين التاليين، 2017 و2018، تجاهل محمود حسين عشرات من خصومه ورافضى إدارته من أعضاء التيارات والأجنحة الأخرى، وبينما تخيَّل أن الدراما دانت له والأمور تسير كيف يشاء، كانت تركيبة الصورة قد تغيَّرت بعد أربع سنوات من الوجود فى تركيا، ونجحت أطراف أخرى فى التواصل مع مسؤولى نظام أردوغان وقيادات «العدالة والتنمية»، وتأمين الجنسية أو الإقامة لمئات من الأعضاء، وتوفير وظائف لعشرات آخرين، وتسويق مُعادلة جديدة لا يبدو «حسين» مركزها ولا بطلها الأوَّل، وبفضل تلك التطوُّرات كان الأمين العام على موعد مع مفاجأة قاسية فى إفطار 2019.