كانت «الإخوان» تنظيمًا عنكبوتيًّا يُغطّى وجه مصر، لكنها فى لحظة واحدة غامرت بكل ما تملك، طمعًا فى السلطة والتمكين، وكأنّها تقتصّ لهزائمها المتراكمة منذ أربعينيات القرن العشرين. الآن ينحسر التنظيم داخليًّا، وتتوزَّع كُتلته الباقية على جيوبٍ خارجية مُتصارعة، تأكلها المعارك الداخلية، والأخطر أن عار الإرهاب الذى رافقها منذ نشأتها، وحاولت كثيرًا التبرّؤ منه، أصبح لَصيقًا بها إلى الحدِّ الذى يستحيل إنكاره.
وإذا كانت تلك التطوّرات الدراميّة، وخسائرها الفادحة، تتّصل مباشرة بالإدارة السيّئة لمكتب إرشاد «بديع والشاطر» وأتباعهما، فإنها فى حقيقة الأمر ترتبط بالدرجة الأكبر بالخلل الجذرى الذى صاحب التنظيم منذ نشأته. أى أنّ عثرات الجماعة، وجرائمها، وتَقطُّع أوصالها، بقدر ما تُمثّل جناية مُباشرة لصقور الإخوان الحاليين، وانعكاسًا لأطماعهم الشخصية، وهوسهم باحتكار واجهة الصورة، ومصادرة الزخم الاجتماعى وما أنتجه من فعلٍ احتجاجى، فإنها فى الوقت نفسه بمثابة جريمة مُتجدَّدة للمُؤسِّس حسن البنا.
يُضفى الإخوان على شخصية «البنا» بُعدًا أُسطوريًّا، إذ يرونه وليًّا بكرامات ورسالة سماويّة. لكن بعيدًا عن اعتقاد القواعد فى أُسطورتهم الواهية، فإن ما جناه المُؤسِّس على طوابير المُلتحقين بالتنظيم طيلة تسعة عقود، وما ورّطهم فيه من تأسيس فكرى مُتهافت، وغارق فى حسابات السياسة واستقطابات القوى، يظلّ الحامل الرئيسى لكلّ وَهَن الإخوان، والسبب المُباشر لأزماتهم، منذ الانطلاق فى 1928 حتى الآن!
كان حسن البنا مُدرِّسًا للخطّ العربى فى الإسماعيلية، وعندما أسَّس صديقه أحمد السكرى جماعة دعوية، التحق بها لفترة، ثم صادرها سريعًا لصالح رؤيةٍ طارئة لم تبزغ مُؤشِّراتها فى أحاديثه وأنشطته من قبل. كانت مصر وقتها تضع قدمًا أولى فى حظيرة الليبرالية، وتعرف الحزبية المدفوعة بشعارات الاستقلال وتراكمات ثورة 1919، وتلك كانت أزمة كبيرة للقصر الملكى، وخلفه سلطات الاحتلال البريطانى، ولم يكن مُمكنًا تفكيك حالة الحشد الوطنية إلا بالارتداد إلى دائرة ولاء أوّلية، قادرة على تحييد الوطن لصالح عاطفة دينية يُمكن توظيفها لتثبيط الحسّ الوطنى وتطلُّعات التحرُّر. وقتها برز «البنا» والإخوان، ودعوا بوضوح لاستبدال الدين بالوطنية، ورفضوا التحزُّب، وانحازوا للقصر ضد الأغلبية، وأشعلوا طموح الملك فؤاد وابنه «فاروق» من بعده فى وراثة السلطنة العثمانية ولقب خليفة المسلمين، والأمر نفسه فعلوه مع الملك عبدالعزيز آل سعود فى الحجاز. وتلك كانت البذرة الأولى لاختراق السياسة والجدار الوطنى المنيع، برعاية القصر وتمويل الاحتلال.
حصلت «الإخوان» على تمويلات مالية من الإنجليز. إحدى دفعاتها 500 جنيه من ضابط بشركة قناة السويس. بعدها أسَّست الجماعة تنظيمًا مُسلَّحًا تحت لافتة المقاومة، لكنّه فى حقيقة الأمر كان مُكلَّفًا بإنجاز عمليات قذرة لإشعال الشارع، وحصار حكومات الأحزاب.
وكان كثير من تلك العمليات يجرى بإشراف طبيب الملك يوسف رشاد. كان التجلِّى الأبرز عندما فاز «الوفد» بالأغلبية مطلع الأربعينيات، فكتبت صحيفة الحزب «الشعب مع الوفد»، لتردّ مجلة الإخوان المسلمين فى اليوم التالى «الله مع الملك».
لم تحمل «الإخوان» أجندة وطنيّة، وإنّما تسرَّبت من شقوق المِحنة التى يصنعها الاحتلال، لتعزيز حضورها وتنمية مكاسبها. وتمتَّعت لقاءَ تلك المهمّة بدعمٍ قوى من القصر وسُلطات الاحتلال، لكن هذا الأمر كان بداية الأزمة الوجودية التى صاحبت الجماعة لاحقًا، إذ وضع «البنا» تنظيراته وأفكاره وخططه لهيكلة التنظيم وأُسس عمله، من رحم الاستقطابات وتوازن القوى النسبى ضمن بنية نظام ملكى يتعثّر فى أولى خطوات الليبرالية.
لذا كان طبيعيًّا أن تتعثّر الجماعة نفسها مع أول تحوّل فى قواعد اللعبة، أو تَغيُّر تركيبة السلطة وحسابات القوى داخلها، وهو ما حدث بالفعل عقب ثورة يوليو 1952، والانتقال إلى نظام جمهورى لا تنقسم قواه على فريقين، شرعية ملكيَّة ثابتة وحكومة حزبية مُتغيّرة، وهكذا سقطت الجماعة فى أول اختبار حاولت فيه توظيف قوانين الصراع القديمة فى حلبة صراع جديدة تمامًا!
قبضت الجماعة على تعاليم «البنا»، النابتة من رحم نزاع ثُلاثىٍّ مُحتدم: حركة ليبرالية، ومَلكيَّة رَجعية، واحتلال مُتجذّرٍ عبر خمسة عقود.
ورغم تَغيُّر شكل المُعادلة وأطرافها، لم يتخلَّ التنظيم عن أفكار المُؤسِّس، خاصّة رسالتى التعاليم والمؤتمر الخامس، ورأوا أن معادلة اللعب تحت أقدام القوى المُتصارعة وتوظيف العنف المحسوب، الصيغة الأسلم للبقاء وتحصيل المكاسب. لكن تلك التركيبة لم يكن مُتوقَّعًا أن تمتدّ صلاحيتها إلى نظام جمهورى تتركَّز صراعاته داخله، ولا تتوزَّع على جغرافيا شاسعة يُشاركه فيها لاعبون آخرون.
وهكذا اصطدموا بـ«عبد الناصر»، وصالحهم السادات على التبعية، ثم اصطدموا بـ«مبارك»، وصالحوه وخاصموه، ولم يُفكِّر رشيدٌ منهم فى أنّ الخلل يسكن أدبيّاتهم، ويستوطن العقول التى تقود التنظيم من مُنطلق القداسة وعصمة أفكار «البنا» ورُؤاه.
لذا كان طبيعيًّا أن يتجدَّد الصدام مع الشارع والدولة حينما تحقَّقت قفزة نوعية واسعة عقب 25 يناير 2011، لم تكن بمثابة قطيعة كاملة مع رواسب المُعادلة الملكيّة التى علقت بأحذية يوليو، وإنّما مثَّلت اتّجاهًا حادًّا للانفصال عن دولة يوليو نفسها، والنظام الجمهورى البسيط الناشئ فى ظلالها.
انتهازيّة «البنا» دفعت الجماعة للعب مع كلّ الأطراف، والرهان الساذج على الفوز بمفردها. هكذا جاورت الثوار، وجالست الأحزاب، واتّصلت بمؤسَّسات الدولة، وقطعت وعودًا للجميع بنيَّة الخيانة المُسبقة، ثم هرعت إلى خيار العنف حينما انكشفت ألاعيبها.
وبفعل التطوّرات المُتسارعة ارتبكت القيادات والقواعد بين تنظيرات «البنا» وسيد قطب والمودودى والندوى، وانتزعوا فتاوى ابن تيمية من سياقها، وتمادى فريق منهم مُستدعيًا أفكار عمر عبدالرحمن والدكتور فضل، ودخل القرضاوى على الخط مُضفيًا على الإرهاب مَسحةً عصريّة.
ووسط تلك الغابة المُلتفَّة، وتَعدُّد الرعاة والمُموّلين، اشتعلت الصراعات الداخلية، ورسمت التيارات حدود جُزرها المُنعزلة، بتنويعاتٍ مُتفاوتةِ الحِدّة على خطاب «البنا»، تُراهن جميعها على العنف واللعب تحت الأقدام.. لكن رغم وِحدة الغاية فإنّنا لم نعد أمام جماعة واحدة، بل أشتات وجماعات، من غير المُتوقَّع أن تلتئم مرة أخرى!