قال دونالد ترامب، فى تصريحات صحفية، قبل سفره للمشاركة فى فعالية بولاية بنسلفانيا الأسبوع الماضى، إن إيران ستواجه قوة هائلة حال استهدافها المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط.
وكان قد استبق تلك التصريحات بتحذير طهران من تهديد واشنطن، متوعّدًا بأنها قد تلقى نهايتها حال إصرارها على هذا النهج.
وهو ما ردَّ عليه وزير الخارجية الإيرانى جواد ظريف بالقول إن بلاده صمدت أمام المُعتدين على مرّ التاريخ، وإن التهديد لا يُجدى معها، وعلى الإدارة الأمريكية الرهان على الحوار، وبعدها بساعات قال الرئيس حسن روحانى، فى تصريحات فجر الثلاثاء الماضى، إن بلاده كانت تُفضِّل الجهود الدبلوماسية، لكنها لم تعُد تُعوّل عليها فى ظل الضغوط الحالية، لذا لا سبيل أمامها إلا المقاومة.
غابة التصريحات الساخنة، والحروب النفسية بين الولايات المتحدة وإيران، ظلَّت مُشتعلةً وآخذةً فى التنامى طوال الأسبوعين الأخيرين.
فبينما قالت تقارير صحفية، إن مستشار الأمن القومى ووزير الخارجية الأمريكيَّين، جون بولتون ومايك بومبيو، ينحازان إلى خيار القوّة والتحرُّك الخشن ضد طهران، يؤكد «ترامب» بين وقت وآخر أنه لا يريد الحرب، وبالمنطق نفسه يُصعِّد قائد الحرس الثورى حسين سلامى، وقائد فيلق القدس قاسم سليمانى، وعدد من قادة الحلقات الوسيطة، لهجة التصريحات كما لو كانوا يسيرون باتجاه الصدام المُتعمَّد، مؤكِّدين جاهزيّتهم لصدّ أى عمل أمريكى، والصمود فى معركة طويلة الأمد، بينما تتوالى إشارات روحانى، وظريف ونائبه عراقجى، بشأن مساعيهم للتهدئة، بل إن إيران بادرت بنزع بطّاريات صواريخ مُتوسطة وطويلة المدى من زوارق وقطع بحريّة مُتمركزة فى الخليج.
وبشكل عام يبدو أن استراتيجية البلدين واحدة فى تلك الأزمة، إذ تسير التصريحات فى اتجاهٍ يُعاكس المواقف العمليّة، وكأنهما يُخرجان مَشهدًا مليئًا بالتشويق، ويسعيان للإبقاء على فيلمهما الهوليوودى فى ذُروته لأطول مدىً مُمكن.
عمليًّا لا يُمكن افتراض أن إيران تسير باتجاه الحرب، أو تتمنَّى وقوعها، وذلك لأسباب عديدة تتداخل معًا لتصنع سياقًا ضاغطًا للنظام السياسى فى طهران، بشكل يخصم من قُدراته الفعلية، ويشلّ حركته عن المبادرة.
أوّل تلك الأسباب أن التطوّرات الحالية تتأسَّس على خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووى قبل سنة من الآن، وهو خيار فردىّ انحازت له واشنطن بدون رغبة أو قرار من طهران، ومن ثمّ فإنها لو كانت تملك إمكانات التعامل مع الأمر، فأغلب الظنّ أنها ليست جاهزة له، ولم تضع خطّة لاحتواء آثاره، بينما تتوفَّر تلك الجاهزية لدى الإدارة الأمريكية، فى ضوء أنها تُعدّ عُدّتها منذ النصف الأول للعام الماضى. أما ثانى الأسباب فيرتبط بالأوضاع الداخلية المشحونة، وسخونة الشارع الإيرانى، مع تراجع مُعدَّلات النموّ وسعر العملة، وقفزات مؤشِّرات البطالة والتضخّم، ونُدرة السلع الأساسية، بشكل يضع البلد بكامله فى مهبِّ الريح حال دخوله صراعًا طويل المدى.
وتزيد من فداحة تلك الصورة آثارُ العقوبات الأمريكية التى شملت قطاعات النفط والبنوك والمعادن، بما يُقارب نصف الاقتصاد والموارد الإيرانية، ما يعنى أن البلد المُكبَّل بفاتورة نفقات عسكرية ضخمة فى حالة السلم، لا يملك موارد كافية للتعبئة ورفع الجاهزيّة إلى مستوى الحرب!
تركيبة المشهد، بما يحتويه من تصريحات مُتضاربة على الجبهتين، تؤكِّد بما لا يدع مجالًا للشكّ، أن الأمر يتجاوز السيناريو الدرامى المحسوب، والتصعيد المُحدَّد بسقفٍ غير قابل للتجاوز، كما لو كان فيلمًا محصورًا فى شخصيات ومواقع تصوير بعينها.
وبنظرة أعمق، يبدو أن «ترامب» لم يكن يستهدف الوصول إلى الصدام الخَشن، أو حتى حصار البرنامج النووى الإيرانى باعتباره مشروعًا جادًّا أو يُمثِّل تهديدًا حقيقيًّا، بقدر ما كان يتحرّك بعقليّة رجل الاقتصاد، مُستهدفًا تصعيد الصراع إلى ذُروة ساخنة تسمح بتحقيق مكاسب مُباشرة للولايات المتحدة. يؤكد هذا التصوّر أن حزمة العقوبات الأخيرة طالت تصدير إيران للماء الثقيل، بشكل يمنعها من نقله إلى الخارج وفق بنود الاتفاق النووى الموقَّع فى 2015، وهو أمرٌ فى جوهره يُمثّل دعمًا للبرنامج النووى وليس حصارًا له!
فى الحقيقة لا يبدو أن نووى إيران يعنى الولايات المتحدة فى المقام الأول. بالتأكيد تهتمّ به وتضعه فى حسبناها، لكنّه ليس شغلها الشاغل كما تُوحى للعالم.
كلُّ ما فى الأمر أنها تستهدف حزمة مكاسب مُباشرة على حساب طهران ودول الخليج، وترى فزَّاعة سلاح الدمار الشامل مدخلًا مُناسبًا لإرساء قواعد اللعبة وفرضها على كل الأطراف، بما يصبُّ فى خزّان مُستهدفاتها النهائية لقطاعات الطاقة والسلاح والتجارة الأمريكية.
فى ظلّ تنامى إنتاج النفط الصخرى، والرغبة فى تنمية صادرات الصناعة العسكرية، للحفاظ على الأداء الإيجابى للاقتصاد على صعيد سعر الدولار، ومستويات النموّ الاقتصادى، ونموّ الوظائف غير الزراعية، وكل تلك الأمور التى حقّقت أداءً إيجابيًّا فى السنتين الأخيرتين، يُمكن السير بها إلى الأمام حال الإبقاء على احتدام الصراع فى حيِّز التصريحات والتعبئة الإعلاميّة، بينما تُصبح فى مرمى النيران والتهديد المباشر إذا تطوَّر الأمر إلى نزاعٍ عسكرىٍّ حقيقى.
إذا صحَّ افتراض أن البرنامج النووى مُجرَّد ورقة للضغط وتسويق حالة الشَّحن، وأن أهداف «ترامب» تنحصر فى تحصيل أكبر قدرٍ مُمكن من المكاسب الاقتصادية والسياسية، فإن تلك الرؤية تقتضى الإبقاء على التوتّر قائمًا لأقصى مُدّة متاحة، وتغذية مخاوف المراكز الاقتصادية الإقليمية من مُنتجى النفط ومُستهلكى السلاح الأمريكى الكبار، على أن يظلّ التوازن قائمًا بين عناصر الصراع، دون اهتزاز أو غَلبةٍ لجانبٍ على آخر، بالصورة نفسها التى تسير بها توازنات الدراما وحَبكة الأحداث فى أفلام هوليوود!