للكمنجة سحر خاص، يسحب الروح إلى عالم آخر يتنسم رقياً وسمواً وغموضاً فى ذات الوقت، هذا الغموض الذي يصنع حالة فنية متفردة ، تتحرك إلى الأعماق مع كل سحبة قوس على الوتر، وهنا تصبح الكمنجة رفيقاً مثالياً في الفرح والشجن، ومن منا يمكن أن ينسى مشهداً لطيفاً في فيلم "أم العروسة" (1963) للمخرج عاطف سالم، حينما كانت بنات حسين أفندي الأب المصري الأصيل الذي يعافر لتربية أولاده، يطلبن من شقيقهم الصغير أن يعزف لهن مقطوعة كلاسيكية تؤنس اللحظة العاطفية التي يعيشنها، ولم يكن هناك أفضل من الموسيقى والكمانجة للتعبير عنها، وقد قرأت ذات مرة أنه من مميزات هذه الآلة الموسيقية الفاتنة أن عازفها يمكن أن يأتي تميزه من ثلاث عناصر تكوينية: الفطرة وحدها والفطرة ثم الدراسة، استعدت هذه الجملة بينما كنت أسمع تقاسيم للفنان الكبير وعازف الكمنجة المصري/ العالمي عبده داغر، تقاسيم تتوزع بين حالات شعورية مختلفة وكأنها تلعب معنا نحن المستمعين المنصتين لها بإصغاء عجيب، لعبة رياضية ذكية، وتجعلنا في صحبتها ناس عاطفيين ولهم أحلامهم الإنسانية غير العصية، وأنا هنا لا أعدد ميزات عبده داغر وعزفه، لأنها أكبر وأجمل من أن أحصيها، وهو الفنان الذي صنعته فطرته الذكية، إنه كما الكمنجة أولاد الفطرة والحياة البديهية وهذا سر قوته واستمراره، يزيد عليها نشأته في أسرة موسيقية، أسرة تنتمي إلى طنطا مدينة الموسيقى وفنون العزف والغناء، ليصبح الصبي الصغير الذي خرج من رحم هذه المدينة الاستثنائية، فناناً كبيراً وصل صيته الواسع إلى أوروبا، لم يقرأ النوتة ومع ذلك متمكن من الجمل الموسيقية وتجاوزت مهارته الحدود وصار هرماً مصرياً بمشواره الحافل بأسلوبه الخاص في العزف والـتأليف وتعليم الموسيقى، حتى صنعت له ألمانيا تمثالاً يجاور تمثالي "موتسارت" و"بتهوفين" و"باخ" في حديقة الخالدين، إضافة إلى حصوله على دبلومة فخرية في الموسيقى العربية عام 2005 من زيوريخ بألمانيا، لتدريسه في الجامعة الآلات الوترية والنحاسية والنفخ، وتكريم جامعة جينيف له، ومؤلفاته التي اختيرت ضمن مناهج تعليم الموسيقى في أكثر من دولة أجنبية، وإشرافه في مصر علي بيت الكمان الشرقي لإعداد جيل موسيقي جديد.
ولد عبده داغر في العام 1936، وكان والده "مصطفى داغر" من رموز الموسيقى في طنطا، صاحب معهد لتعليم الموسيقى وورشة ومحل لصناعة العود الذي تعرف عليه داغر قبل الكمانجة التي صار مغرماً بها منذ سن العاشرة، على الرغم من رفض والده لانخراطه في عالم العزف، فقد أراد له مهنة أخرى، لكنه اختار الموسيقى والكمانجة وعمل في الموالد وكوّن ثنائيا شهيرا مع الشيخ محمد عمران ثم عمل مع أم كلثوم وعبدالوهاب، حتى التقى بعبد الحليم نويرة، وشاركه تأسيس فرقة الموسيقى العربية، شخصية درامية نابغة ومغايرة، ولعل هذا ما أغوى الأديب الكبير خيري شلبي ليكتب عنه روايته "صهاريج اللؤلؤ" مع بعض الإضافات التخيلية على حسب ما يقول داغر، التي تعلي من النسق الدرامي والروائي.
الخلاصة : عبده داغر أيقونة ورمز مصري في عالم الموسيقى، له العديد من المؤلفات الموسيقية وابتدع طريقته المتمايزة التي طورت في القوالب الموسيقية المصرية وصنعت منهجاً جديداً، واحد من أسطوات الموسيقى وأساتذتها الذين أسهموا في إعلاء روح هذا البلد وشكلوا وجدان ناسها وأهلها ويستحقون كل تقدير وتكريم.