هنا فى غرفة العناية المركزة ترقد ابنتى "رنا" أول فرحتى التى شاركتها فيها توأمها "روان".
هنا فى غرفة العناية المركزة ترقد ذات السادسة عشر ربيعا، وسط أسلاك وبين أجهزة دقيقة تراقب أنفاسها، بينما أتوسل لتلك الأجهزة أن تستجيب لدعائي إلى الله أن ينجيها ويشفيها من المرض ويزيل عنها الشحوب والوهن اللذين حلا محل نضارتها وحيويتها، وأطفأ جذوة انطلاقها وشغفها بالحياة والاستمتاع بها مع شقيقتها وزميلاتها.
هنا ترقد "رنا" التى تغار علي أكثر من أمها، عندما يصل إلى مسامعها أنني مدعو إلى مناسبة أو حدث فيه من الآنسات والسيدات، دون أن تكون معى، فأحترم غيرتها علي ولا أصدقها القول بالحضور أو المشاركة، أو حتى التأخير عن عودتى للمنزل، وتساعدني في ذلك أمها زوجتى، قائلة فى تعجب ودهشة "خايف من البنات ومش خايف منى".
نعم،، كنت أخاف على مشاعر "رنا" وتوأمها "روان" وشقيتهما الصغرى "ريم", لكن خوفى هذا تبدل إلى رعب وهم وحزن، على ابنتى بعد أن أصابها المرض.
منذ يناير الماضى ومع انتشار الأنباء العديدة "المتضاربة" حول كنه وطبيعة امتحانات أولى ثانوي، بالتابلت مرات، وورقى مرات أخرى، امتحانات بنظام جديد، لم يعتد عليه أبناؤنا، إذ فجأة سنطبق النظام الجديد، وما هذا النظام؟!، لا أحد يعرف، ولا إجابة شافية، تشفى صدور وعقول الطلاب والآباء، ومع كل يوم يمر، تزداد الحيرة، ويزداد قلق الأبناء قبل الآباء.
رنا الراقدة في سرير الرعاية المركزة، بطبيعتها قلقة، تتطلع إلى مستقبلها بشغف وقلق أيضا، أمنيتها الأولى الدراسة في كلية الألسن، وتجهز نفسها إلى ذلك. عندما أخبرتها بطبيعة الامتحانات وطريقتها الجديدتين، ساورها القلق والخوف، قائلة "يعني هيجربوا فينا الطريقة ده بعد كل السنين ده.. احنا بقالنا 9 سنين بنذاكر ونمتحن بطريقة معينة، لو عايزين تطبقوا حاجة جديدة ابدأوا من kg، افترض إن الطريقة ده مش مناسبنا، ندفع احنا الثمن ويضيع اللي بحلم بيه".
صمت، ولم أجبها، فقط رددت عليها "اعملى اللي عليك وبس، والنتيجة في يد الله"، لكنها، على غير العادة، لم تقتنع بكلامى الاقتناع التام، لتبدأ رحلة امتحانات الترم الأول، التى قيل عنها في بادئ الأمر أنها امتحانات "تجربة"، ومعها بدأت موجة من تسريبات أسئلة الامتحانات.. ليزداد القلق، مع اختبار شهر أبريل الذى تم الاعتماد فيه على التابلت لأول مرة، لينشط مجددا بصورة أقوى وأشرس فيروس القلق والرعب الذى تملك "رنا" وجعلها دائما مهمومة على مستقبل امتحان آخر العام، ذلك الامتحان المجهول الشكل والمضمون.
أعترف أن ابنتي يتملكها دائما قلق زائد نحو أى شيء مجهول، كانت تحاول التغلب عليه بمزيد من المذاكرة، إلى أن خاضت تجربة امتحانات أولى ثانوي المليئة بالغموض، الذى حول القلق إلى مرض.
قبل امتحانات آخر العام، وفي منتصف شهر أبريل الماضى، ازداد القلق المرضى، خاصة مع الإخفاق في التعامل مع منصة الامتحانات التجريبية، ومع احتواء الامتحانات على أسئلة لم يتعود عليها الطلاب، فازداد القلق والخوف، ومعهما ازداد خفقان القلب، لندق باب الطبيب، مرة تلو أخرى، ليخبرنا بأن القلب عضويا سليم، إلا أن التوتر هو سبب الألم.
لتمر أيام وأسابيع والقلق يزداد، امتحانات على التابلت، ونوعية أسئلة جديدة لم يتدربوا عليها، ومنصة امتحانات إلكترونية متوترة هي أيضا، تعمل مرة، ومرة لا.
في الثاني من يونيو، وبعد ماراثون من الرعب والقلق، انتهت امتحانات نهاية العام التى استمرت طوال شهر رمضان، تاركة ابنتي منهكة وشاحبة، ومع نهاية رمضان وبداية أيام عيد الفطر، رقدت في سريرها فى إعياء شديد.
فى رابع أيام العيد زاد الوهن، وكنت قد حددت موعدا مع الطبيبة بعد العيد مباشرة لتجري بعض الفحوص لابنتى، وقبل يوم من الموعد، انهارت قواها، للنقل رنا إلى أقرب مستشفى، بإجراء تحليل سريع، اكتشفنا أن السكر في الدم قد وصل إلى 500، والاستون إلى +3 مع وجود غازات في الدم، الأمر الذى يحتم إدخلها إلى الرعاية المركزة فورا.
رنا الراقدة فى الرعاية المركزة، قد يكون قدرها أن تمرض، ولكن، وبحسب ما قالته لى الطبية "القلق والضغط النفسي أسرع بإصابتها بالمرض".
وأسأل نفسي وأسألك صديقى القارئ: كم من "رنا" في بيوتنا يهدده القلق وخوفها على مستقبلها بسبب التعليم وعدم الوعي في تطبيق التطوير والتحديث؟.