تعود علاقة قطر بإيران إلى تسعينيّات القرن الماضى، وقتها كان الصراع مُشتعلاً بينهما على ملكيّة حقل غاز الشمال (طهران تسمّيه فارس)، وبتوصّلهما إلى تسوية للحصص، سعت الإمارة لكسب ودّ الملالى، بغرض تأمين إنتاجها، وضمان ألّا تتعرَّض منشآتها للإغارة من الحرس الثورى، ولاحقًا قادت التفاهمات إلى توطيد الروابط، وصولاً لتحالف عميق فى ولاية الرئيس المُتشدِّد أحمدى نجاد (2005/ 2013) بتبادل الوفود والزيارات الرسميّة، ثمّ التعاون العسكرى واستقبال الدوحة قوات إيرانية.
ربَّما لم يلتفت العرب للأمر وقتها، تأسيسًا على رؤيتهم لبراجماتيّة قطر فى مساعيها لتأمين حصّتها بأكبر حقول الغاز العالمية، إضافة إلى انعدام فرص الحلف المُزعج بين دويلة صغيرة، وبلدٍ يواجه حصارًا أمريكيًّا ورفضًا عربيًّا واسع المدى. لكن التطوُّرات بدءًا من 2011 واندلاع موجات الربيع العربى، عزَّزت أطماع طهران فى المنطقة، لتتلاقى مع تطلُّعات الحمدين «بن خليفة وبن جاسم»، ورأى ملالى طهران أن الفرصة سانحة للتمدُّد، وأن الدوحة قد تكون ورقتهم الرخيصة لإنجاز الخطّة دون أعباء.
وضعيّة تونس، بعلمانيّتها المُلتحقة بالشمال الأوروبى، أخرجتها جزئيًّا من حسابات إيران وتابعها الضئيل، باستثناء قدرٍ من الدعم لحركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشى، لذا لم تتجلّ الأزمة إلا فى مصر، وبعدها سوريا واليمن، لكن العواصم الإقليمية كانت تُضمر موقفًا مشحونًا تجاه أنظمة الحكم الثلاثة، فلم تستشعر الأزمة فى سياقها، ما ضمن للحليفين الإيرانى والقطرى، ومعهما تركيا، حيِّزًا عريضًا للعمل فى الساحات الساخنة، قبل أن يلتهب المشهد وتنطلق صافرات الإنذار فى الخليج، مع احتدام الصراعين السورى واليمنى، وتعاظُم مخاطر الإسلاميّين بسيطرة الإخوان على السلطة فى مصر.
كانت القاهرة أكثر العواصم تضرُّرًا من حلف (قطر/ تركيا/ إيران). فى اليمن تجدَّد صراع النظام مع الحوثيين وحركة الإصلاح الإخوانيّة، لكنه كان تكرارًا لمشهد قديم، حفظته المنطقة واعتادت عليه. وذهبت سوريا إلى حربٍ أهليّة، ثمّ صراع بين القوى الكبرى، تنازعت فيه الولايات المتحدة وخلفها أوروبا، وروسيا ومعها إيران، وأصبحت معالم الأزمة واضحةً وحدودها مرسومةً بجلاء. لكن المشهد المصرى كان مُختلفًا تمامًا، فمن جانب يبدو صعود «الإخوان» تطوُّرًا ديمقراطيًّا فى إطار دستورىّ، ومن جوانب لم يتوقّف الدعم الخارجى، وأصابع أنقرة وطهران المُصطفَّة على كفّ قطر!
بين 2011 و2013 ضخَّت الدوحة قرابة مليارى دولار لجماعة الإخوان وحلفائها، عبر مسارات غير شرعيّة، ووظَّفت قناة «الجزيرة» فى ذلك، من خلال اللقاءات مدفوعة الأجر لرموز التنظيم وتيّارات اليسار وبعض الليبراليّين، ثم لجأت لاحقًا إلى أحد بنوكها واسعة الانتشار، وشركات تابعة فى شرقىّ آسيا، أبرزها Kesawan الإندونيسيّة، وشركات تحويل الأموال العالمية، وخدمات xmlgold وPayPal وNeteller، وتمادت باستخدام حقائب السفارة ومندوبيّتها بالجامعة العربية، وطرود السفير سيف البوعينين شخصيًّا، وتمرير المال الساخن فى صورة صفقات تجارية ومعدّات وأجهزة وطابعات و«خراطيش» أحبار للبعثة الدبلوماسية، فضلاً عن خطابها الإعلامى المشحون، وشراء مساحات دعائيّة فى كبرى الصحف العالمية!
حاولت مصر نقل الصورة للأشقاء، إلا أن المشهد كان مُلتبِسًا، وتقديرهم للأمر لم يخرج عن حيِّز النَّزَق القطرى والمبالغة المصريّة، إلى أن تعمَّقت الوقائع وانكشفت الخفايا، بافتضاح ممارساتٍ شبيهةً من الإمارة بحقّ الشركاء الأقرب فى مجلس التعاون الخليجى، ليبدأ تحرُّك السعودية والإمارات والبحرين، من إلزام الإمارة باتّفاق حُسن نوايا فى 2013، إلى سحب السفراء، وأخيرًا توقيع مُلحق تكميلىّ لوثيقة الرياض فى 2014!
ارتبطت أبرز الوقائع المُكتشَفة بتحرُّكاتٍ مشبوهة خلال الأزمة البحرينية (فبراير 2011/ مارس 2014). كانت الصورة الشائعة عن الأحداث أنّها مدفوعةٌ من طهران، وهذا صحيح، إلا أنّ ما أُضِيف من معلومات فضح تنفيذ الدوحة لرؤية إيران، عبر اتصالات جمعت خالد العطية، وزير الدولة ووزير الخارجية بين 2011 و2016، بقادة حركة الوفاق الشيعية، تضمَّنت تحريضًا على العنف والاعتصام فى «دوّار اللؤلؤة» بالمنامة، على أن تطالب الإمارة عبر حُلفاء دوليّين، بسحب قوات «درع الجزيرة»، وإنجاز اتفاق يقود إلى تقويض حكم «آل خليفة» أو إنهائه، وترافق ذلك مع ضخّ تمويلات للحركة وشركائها، وكان أبرز من شملتهم الاتصالات: مرشدها عيسى قاسم، وأمينها العام على سلمان، وقادتها حسن الديهى ويوسف المزعل وجميل الجمرى وجاسم غلوم.
تبيَّن لاحقًا أن علاقة الدوحة بـ«الوفاق» تعود إلى تأسيس الحركة 2001، وأنها منحتها دعمًا سخيًّا فى انتخابات 2006، التى حصدت فيها 17 مقعدًا من إجمالى 40 بمجلس النواب، وتكرَّرت المساندة فى 2010 واقتناصها 18 مقعدًا تُمثِّل 45% من المجلس، قبل أن يستقيلوا جميعًا نوفمبر 2011، بتوجيهات قطريّة إيرانيّة، على خلفيّة أحداث فبراير وتداعياتها.
وبدت العلاقة أكثر وضوحًا مع قرار داخلية البحرين إسقاط جنسية عيسى قاسم فى 2016، لتتبنَّى «الجزيرة» حملة مضادّة عبر كلّ منصّاتها، روَّجت خلالها بيانات الوفاق وحركة حق وتيار الوفاء الشيعى، وخامنئى وخارجيّته وقائد فيلق القدس ومجمع التقريب بين المذاهب بإيران، وحزب الله وحركة أمل والمجلس الشيعى وحركة التوحيد فى لبنان، ودفعت مركز الخليج للدراسات «مقره أستراليا وتُموّله قطر»، لإصدار بيانات وشراء مساحات صحفيّة لإثارة الأمر.
إلى جانب أفاعيل «آل ثانى» فى مصر والبحرين، وتدخُّلاتهم المشبوهة فى تونس وليبيا وسوريا والعراق، طال الأمر السعودية والإمارات أيضًا، فسعت قطر إلى إثارة القلاقل داخل البلدين، وكبَّدتهما خسائر ماديّة وبشريّة فى اليمن، وهى الخفايا التى عجَّلت بقرار المُقاطعة، ومثّلت تأسيسًا لحقبة جديدة فى العلاقات العربية، لا تفترض حُسن النوايا إلّا بقدر ما تُثبته المواقف، ما يعنى أن غفران ذنوب الدوحة لا يتطلَّب الارتداع عن بثِّ شرورها فقط، وإنما يحتاج بَرهنَةً عملية على ذلك، بالتكفير عن خطايا أربعٍ وعشرين سنة، مُنذ أسَّس حمد بن خليفة هذا المسار المارق بانقلابه فى 1995، أو على الأقل ثمانى سنوات مُنذ سكَبَ الزيت على شَرَر الربيع العربى المُتطاير فى أرجاء المنطقة، قبل أن يترك ابنه «تميم» لاستكمال مهمّة النفخ فى النار!