هل يمكن أن تنفتح بوابة الشعر على مصراعيها فجأة للشاعر الكامن فى الإنسان العادى الذى يسبح فى نهر الحياة سنوات وعقود دون أن يكتب حرفا؟ هذا بالفعل ما حدث مع الشاعرة الإنجليزية كرستين آن كلاتورثى «1962-....» ، التى تفجرت داخلها ينابيع الشعر بعد تجاوزها الخمسين من العمر إثر وفاة ابنتها بالسرطان، ولكن لماذا لا تتجه آلاف الحالات المشابهة حول العالم لكتابة الشعر والنثر إذا كانت الظروف المأساوية يمكن أن تحقق فى النفس والعقل ما يمكن أن يشبه الطفرة الجينية؟
مع كرستين آن كلاتورثى لابد أن تكون الهبة الربانية المسماة بالشعر قد أيقظت أساسا دفينا فى التكوين الثقافى والإبداعى خلال سنوات الشباب المبكر، وإلا ما كنا أمام مجموعة شعرية رفيعة المستوى من حيث تقنيات الكتابة أو الإحكام أو تلك النزعة الإنسانية التى لا يتوصل إليها إلا شعراء مجربون .
«أن تلمح فراشة» عنوان المجموعة الشعرية الثانية للشاعرة كرستين آن كلاتورثى، والتى صدرت العام الحالى عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بترجمة وتقديم نصر عبد الرحمن، وتتضمن مائة وثلاث قصائد، سبقتها مجموعة واحدة بعنوان «بين رأيين» صدرت بالإنجليزية عام 2008 وكانت باكورة أعمالها الشعرية التى قدمتها للأوساط الأدبية البريطانية والأوربية.
تقدم كلاتورثى قصيدة تتسم بالتدفق والنزوح الإنسانى والحيوية المفرطة، بالإضافة إلى حرصها على البساطة الآسرة، حيث تعتمد على الانطلاق من نقطة أو موقف أو لقطة أو مشهد من الذاكرة لتصل بنا إلى الإدهاش عبر اختلاط الأزمنة أو عبر تساؤل فلسفى أو المفارقة التى تضعنا أمام أسئلة الإنسان الأكثر قسوة وبديهية، أسئلة المصير، الموت والحب والعجز، الانتصار والهزيمة، المجد واليأس الكامل.
تقول كلاتورثى فى قصيدة «ظلال الأزرق»: أسميته أزرق / ذلك الرجل الذى يحمل حقيبة ظهر/ ويجلس على نفس المقعد فى الحديقة يوميا / دائما ما يومئ برأسه /عندما أبتسم له / كان يرتدى سترة كبيرة عليه / يثبتها حول خصره بحبل / الأيام تدور / يصبح الخريف شتاء / ويتحول الشتاء إلى ربيع/ كانت أصابع القفازات كبيرة / تهتز وهو منهمك فى نحت قطعة من الخشب بسكين .../ حين مررت على الحديقة / لم يكن هناك / رحل ولم يترك عنوانه / لم يترك سوى مقعد مدهون حديثا بظلال اللون الأزرق».
وفى قصيدة أخرى بعنوان «أطفال الغد» تقول: «فكرة الموت لا تخيفنى / فقط لا أتخيل عدم وجودى/ لا تستقيم الفكرة برأسى / لا أتخيل أن تتبدل الفصول دونى / وتنمو الأشجار والزهور / وتستمر كادبورى فى صناعة الشيكولاته/ ويظل ماكدونالدز يبيع البطاطس المقلية/ يمكن القول إن / لا شىء مضمون فى الحياة / هى مقولة صحيحة».
الذاكرة ومخزونها من الصور والمشاهد والخيالات والأشخاص والمواقف، نبع لا ينضب بالنسبة للشاعرة كرستين كلاتورثى، فهى إذ تنطلق من مشهد فى الذاكرة، فهى تدمج الأزمنة جميعها فى لحظة واحدة، الماضى ذى الوطأة على الروح، والذى يعمل عمل كشاف قوى مسلط على الالتباسات فى الواقع الراهن، كما يفتح الباب أمام أسئلة لا تنتهى بشأن المستقبل وكذا بشأن الوجود الإنسانى بعامة.
ربما تبدو كلاتورثى رومانسية التوجه، إذ إنها دائما ما تنشد العذوبة فى قصائدها القصيرة المكثفة، كما تتجلى لديها بوضوح نزعة مثالية ضد الحرب والعدوان على الطبيعة وعلى الإنسان، كما تحتفى بالضعف والنقص والعجز والمرض، وشتى النقائص التى تجعل من الإنسان إنسانا فى مواجهة جبروت الموت واتساع الكون، لقد تحطمت كل الأساطير والأوهام عن تلك المركزية المزعومة للكائن خليفة الإله على الأرض، وأثبت العلم الحديث أن الإنسانية كلها لا تختلف عن مملكة النحل أو النمل، مجرد دويبات فى فضاء شاسع بلا أى مجد، اللهم إلا أوهام نثبتها فى تاريخ مشكوك بكل فصوله وفى الغاية التى كتب من أجلها، ولم يعد للإنسان من مجد إلا الوعى بحجمه وسط ذلك الكون الشاسع وعجزه أمام الموت الخالد.
إذن، الاحتفال الحقيقى بالإنسان هو الإقرار بالضعف والعجز، اعتراف بالهزيمة الحتمية فى حرب الوجود المفروض فرضا والمعروفة نتائجه سلفا، وهو ما يجعلنا متواضعين أكثر وآدميين أكثر، كما يدفعنا أن نعيد النظر فى الأساس العدوانى المنحط الذى قامت عليه الحضارة الغربية الحديثة وأفرزت أنماطا استعمارية بغيضة من الدول المهيمنة وحتى التراتبية الثقافية بين الشمال والجنوب والعنصرية المستقرة فى وعى الغرب تجاه مختلف الأجناس والأعراق والثقافات المغايرة.
تقول كلا تورثى فى قصيدة «آخر ما تبقى من خمر الصيف»: «أدركا الأمر معا / لكنها تركته ليصبح أحجية / يفكران فيها من حين إلى آخر / قالت إنها سوف ترحل عن العالم أولا / لأنها عاشت وقتا طويلا/ لكنه رحل قبلها وأثبت خطأها/ لأنه مشاكس بطبعه، خصوصا عندما طعن فى السن / بالنسبة إليها كان هو أثرهما حظا / وضعت على رأسها قبعة من القش كى تظلل عينيها / وهى تجلس فى الشرفة التى تغطيها كرمة العنب/ فى يدها كأس وإلى جوارها الزجاجة».