الشاعر الكبير رفعت سلام حالة خاصة بين شعراء جيله ، هذا الجيل الذى تجرع مرارة الهزيمة فى 1967 مع مطلع شبابه ، ومعها هزيمة الحلم القومى و هزيمة الأشكال الأدبية المستقرة منذ الخمسينيات على أيدى رواد قصيدة التفعيلة ، التى عجزت عن الإحاطة بالخراب الذى تمدد فى الأرواح ، أو التعبير عن الطموح الجمالى الباحث عن أصوات أكثر عمقا وتشابكا وغنى، تصل أبعد من فكرة الغنائية الرومانسية والشاعر الفرد المتحدث باسم الغيب المقدس والعارف بكل شيئ .
رفعت سلام ، كان حالما بالتغيير الشامل على مستوى الشكل والمضمون ، وكان طامحا لاجتراح شكل هو مضمون فى ذاته ومضمون لا يقل تجريبا عن الشكل ، كان يطمح لأن يعبر بكل الأصوات ويكتب بالألوان كلها وليس فقط بالأسود على فضاء الصفحة البيضاء ، بل كان دائما ما يسأل نفسه : لماذا الموسيقى بوليفونية والشعر صوت واحد ، ولماذا القصيدة لا تستطيع الإحاطة بكل الكائنات والأشياء والمشاعر فى اللحظة نفسها ، وهل من العدل ألا يمتلك الشاعر إلا بعدا واحدا بينما الأفق مفتوح على أركان الأرض الأربعة؟
ومن ثم ، تتابعت أحلام وخيالات رفعت سلام بقصيدة حداثية تجريبية بصرية مركبة، لها من الموسيقى تعدد الأصوات وتناغمها، ولها من التشكيل ألوانه وتشخيصه وتجريداته، ولها من الخبرات الكتابية قدرة المخطوطات العربية على امتلاك المتن والهامش وهامش الهامش والحواشى والصور المصاحبة والمناخ الروحى ، وتجلى ذلك بدرجات متفاوتة منذ ديوانه الأول "وردة الفوضى الجميلة - 1987" "إشراقـات -1992"، "إنها تومئ لي -1993"، "هكذا قلت للهاوية-1995"، "إلى النهـار الماضي - 1998" ، "كأنها نهايـة الأرض- 1999" "حجر يطفو على الماء-2008" وانتهاء بديوانه الأخير "أرعى الشياه على المياه-2019" ، والصادر مؤخرا عن دار مومنتفى لندن.
فى الديوان الأخير للشاعر رفعت سلام ، " أرعى الشياه على المياه " نجد أنفسنا أمام عدة مستويات للقصيدة التى اجتهد طوال سنوات لأن يعبر عنها ، فقد استغرق "سلام" عقودا لكى ينجز قصيدة مكتوبة بصرية ضد الشفاهية وضد الصوت الواحد وضد فقر الكلام ، ولذا نجده يبدع فى استخدام المتن والهامش والحواشىالتى تمثل أصوات مختلفة ومتناغمة فى الوقت نفسه ، نجده يستخدم الإيقاع التفعيلى كما يستخدم السرد الخالص الذى يميز قصيدة النثر ، ونجده أيضا يستعين بتصميم صفحة للقصيدة لا تعترف فقط بالكلمات عناصر فاعلة لإيصال المعنى والإمساك بالخيال ، وإنما يوظف التشكيل والصورة فى بناء القصيدة
نحن إذن أمام طموح شعرى للمصالحة بين الكلمات وظلالها ، بين المعنى ودلالاته ، بين الصوت والصورة ، بين السطر الشعرى والكائنات، وبدلا من القصيدة يرتفع عاليا مفهوم "العمل الشعرى" الذى يتقصى وحدة الوجود والخيالات والهزائم والأشواق والانتصارات الحقيقية للإنسان بالمعرفة . فى الصفحة الأولى من الديوان مثلا يواجه المتلقى ثمانية عناصر متباينة دفعة واحدة ، أربعة كتابية وأربعة تشكيلية ، أما الأربعة الكتابية فهى "متن 1" الذى يبدأ بالقول " أنا الغراب الناعق أرفرف فوق الأطلال، سعيدا مبهورا ( يا الله أهو العيد؟ أم مهرجان ما) ،تحتى الركام والخرائب زاهرة ، تحتى الحرائق باهرة" .و"متن"2 : "ها هاها أيها القطيع الذى أسوقه على حافة الجرف إلى حتفه، هل قضمت الآن ما يكفى من أعشاب الندم؟" و"هامش "1: " لا قيامة ولا يحزنون . أشجار الهذيان والحمى يانعة وحان قطفها فاقطفوها قبل أن يصيح الديك أو ينشق القمر" ، و"هامش2" : جرف غريب مريب يكان أن يقول خذونى ، نبت فجأة فىبصيرتى الكليلة فقلت ولم لا، فليكن ، فكان"
أما العناصر التشكيلية الأربعة فتتجلى فى تلك الشمشالتى تهيمن على أعلى الصفحة من اليسار باتجاة المتون المكتوبة فتصنع صورة بصرية موحية ، والأقدام التى تغادر وتجذب بصرنا أسفل يمين الصفحة باتجاه الهامش الأول، وكذا الكلب الذى يدير ظهره إلى التدافع الكلامىوالتشكيلىفى الصفحة فيبدو وهو يغادر وكأنه ينسل من الهامش الثانى ، أما الفراغ الأبيض للصفحة والذى يمثل العنصر التشكيلى الرابع فهو الإطار الذى يستوعب كافة العناصر وهو النقيض لكل ما هو ظاهر كما أنه ما يعطى لكل عنصر من العناصر السابقة سمته وهويته إذا يفصل بينه وبين مختلف العناصر، كما يقترب به فى الوقت نفسه من العناصر الأخرى، أى أنه هو ما يعطى لكل عنصر تموضعه الخاص فى وحدة الوجود والمشاعر والأفكار على الصفحة الفارغة.
هكذا يمضى بنا الديوان الذى يستغرق مائة وست وثلاثين صفحة من القطع المتوسط بين متون متجاورة ومتقاطعة وهوامش متزاحمة ومتدافعة ترغب أن تدفع المتون لتحل محلها ، والمتون والهوامش أصوات وتعبيرات عن هذيانات مرتبة وتدفقات محكومة بأطر الوعى الكتابىوالجمالى ، فى رغبة محمومة للإمساك بكل الأصوات الخام المتدافعة فى الذهن قبل أن يجتزئ منها الكلام العبارات المرتبة وينطلق بها فى مضمار الصوت الواحد ، لا ، الشاعر رفعت سلام يرغب فى الإمساك بتجليات الصورة الشعرية كما تتدافع فى الذهن ، وهى صور وكلمات وأصوات وأضواء متجاورة ومتقاطعة ومتنافرة ، وتحتاج أن تجترح الشكل المناسب المعبر عنها
الشاعر يقول كل الكلمات الرئيسية والاعتراضية والهامشية العابرة ، ومعها الأصوات التابعة والغمغمات و الصرخات ،ويكتب كل الأفكار والتعليقات والعبارات المحكمة المصاغة بدقة وتلك المندفعة مثل مياه الفيضان المحملة بحمرة الطمى وشوائب المطر الدافق إذ يرتطم بالأرض وينحتها عابرا بما يستطيعه منها فى طريقه، و هو يجتهد ليكون تجلى الكلمات والأصوات والمشاعر والصور على الورقة البيضاء مثلما أشرقت فى ذهنه ، وبحسب إيمانه بالقصيدة الكتابية المقروءة والمشاهدة فى فضائها التخييلى.
أرعى الشياه على المياه إذن ، ديوان الأصوات المتجاورة والصور المتكسرة على مرايا الخيال والأضواء التى عادة لانرى منها إلا الأبيض الظاهر بينما توجد كافة الألوان فى مكمنها ، كما أنه قصيدة الشمول والإفضاء بكل الكلمات ، كلمة الاحتجاج وكلمة المحبة وكلمة السخرية وكلمة الغضب وكلمة الرضا وكلمة الحكمة وكلمة الابتسامة