سيظل عزمى عبدالوهاب رومانسيا بريئا، مثل كل الشعراء المخلصين للشعر، يبكى على الأحلام ويقف بالأطلال كلما فتح كتاب الشعر واختار أن يكتب سطرا جديدا يضيفه إلى قصائده السابقة، فهو يتقصى أثر العالم الذى شيده فى خياله، وسعى طوال سنوات للبحث عنه، الفردوس المفقود، حيث الغزالة تشرب من النهر فى حضور النمر والثعابين كائنات زاهية لا تنفث سمومها فى وجوه الكائنات والأرض مملوءة عدلا لا جورا، والحدائق الغناء تستقبل العاشقين بود وترحاب، والشعراء يكتبون ما يخطر على خيالهم فيرونه وقد تجسد حقيقة على الأرض، ولأن هذا الخيال الجامح لا علاقة له بالواقع ولا بالحياة التى تستمد وجودها من الغابة، وتتعمد بالنار فى السجون، فإن الشاعر لا بد وأن يبكى على الفردوس المفقود وأن ينعى الحبيبات الغادرات والعجلات الثقيلة لبلدوزر الحياة القاسية وهى تدهس أطرافه فلا تبقى منه سوى رأس يفكر فى طبيعة الألم الذى يحطمه وإلى متى يستمر، وإلى أين تذهب أحلامه المجهضة، وهل فعلا سيترك أثرا فى هذا العالم قبل أن يمضى أم أنها الأيام تكر بالهزائم والسلام.
«ذئب وحيد فى الخلاء» مختارات شعرية من أعمال الشاعر عزمى عبد الوهاب صدرت مؤخرا عن الهيئة العامة للكتاب، وتتضمن أربعين قصيدة من ثمانية دواوين شعرية مرتبة عكسيا بحسب صدورها، الأحدث فالأقدم، وتبدأ بقصائد مجموعته الأخيرة «غلطة لاعب سيرك» الصادرة عن هيئة قصور الثقافة 2018، ويليها «حارس الفنار العجوز»، «شخص جدير بالكراهية»، «سمشى فى العاصفة»، «بعد خروج الملاك مباشرة »، «بأكاذيب سوداء كثيرة»، «الأسماء لا تليق بالأماكن»، «النوافذ لا أثر لها».
عزمى عبدالوهاب، تشكل وعيه بالعالم وتجسدت خيالاته وأحلامه بالمستقبل فى قريته الصغيرة «الدراكسة»، لكنه عندما وطأ المدينة القاسية التى لا ترحم، واجه الأهوال وصادف القسوة وأشكال التنكيل وما يمكن أن يوصف بإعادة التأهيل العنيف، ليستطيع التعايش مع كائنات وغابات المدينة الساحرة المخيفة، وربما استطاع أن يدفع ضريبة التعايش مع متطلبات المدينة القاتلة وكائناتها المشوهة، لكنه عند الشعر لا بد وأن يخلع جميع الأقنعة، وأن يعود إلى الشاب المقبل على الحياة الذى كأنه منذ عقود، وينشر معتقداته وأحلامه وخيالاته أمامه ليسألها عما جرى له وللإنسانية عموما، وماذا حدث للأحلام الكبرى وللأرض التى ملئت ظلما وشرا، وكيف اجترأت للنساء الغادرات على انتزاع القلوب وتعليقها فى خطاطيف وكلابات الجزارين وعرضها طازجة لتقسو تحت الشمس، ثم يعترف لنفسه بأنه العاشق المهزوم والنبى الأعزل والباحث عن الحقيقة وسط الزيف والمناخات المسمومة التى نغرق فيها يوما بعد يوم.
عزمى عبد الوهاب فى مختارته الشعرية، التى تمثل عمله الشعرى الممتد على مدار خمسة وعشرين عاما أو يزيد، لا يتوقف عن رثاء الذات والعالم، هل مرت تلك السنوات حقا ؟ وهل اقترب شبح الموت ؟ وهل ضاعت الأحلام والأيام مع من ضاعوا؟ وأين ومتى سنحقق الأحلام التى مازالت تعذبنا وتذكرنا بوجودها ووجودنا فى هذه الحياة؟ أحلام التكوين الأولى لا يمكن أن تمحى من الوجدان والعقل والخيال ، ولا يمكن أن نتبنى عكسها حتى نمتلك راحة كاذبة أو نمضى قدما فى حياة جديدة ، بل إن عبارة كفافيس الشاعر السكندرى العظيم حاضرة نصا وروحا فى قصائد المختارات وفى كل أعمال الشاعر «ما دمت قد خربت حياتك على هذه البقعة من العالم، فهى خراب أينما حللت».
«عزمى عبدالوهاب مولع بتقصى سيرته الذاتيه وحركته فى الحياة والوقوف على ما بها من مواقف فاصلة ومثيرة للحزن والأسى، وهو فى أغلب القصائد يقف موقف رثاء الذات الذى ينعى الأحلام الضائعة بعد أن أيقن أنه ما من سبيل لاستعادتها.
هو يعرف أننى عشت حياتين
واحدة فى قبلات الحدائق العامة والجنس السريع فى الشوارع والبيوت التى ترددت عليها كأنها بيتى
وواحدة فى الجرى وراء لقمة العيش فى الوظيفة والمؤسسات الضرورة»، «غلطة لاعب سيرك ص 27».
غلطة لاعب سيرك القصيدة الرومانسية بامتياز تعيدنا إلى أجواء قصيدة سابقة هى قصيدة أحمد عبد المعطى حجازى الشهيرة «مرثية لاعب سيرك»، التى تعد من علامات قصائد التفعيلة لشاعر علم من أعلام التجديد فى الشعر العربى وأحد الرومانسيين الكبار أيضا، ولكن قصيدة عزمى عبد الوهاب تختلف عن قصيدة حجازى بتعقدها وتشابك عناصرها وتحولاتها، حجازى ينشد: «فى العالم المملوءِ أخطاءَ / مطالبٌ وحدكَ ألا تخطِئا / لأن جسمكَ النحيلْ / لو مَرة أسرعَ أو أبطأَ /هوى، وغطي الأرضَ أشلاءَ»، وهو هنا يكتب عن لاعب سيرك فى الواقع ويأسى لحياته على عادة الرومانسيين التقليديين، أما عزمى عبد الواهب فيقدم نصا اعترافيا مشهديا يبدو من خلاله فى مراجعته لذاته لاعبا فى السيرك الكبير المسمى بالحياة: «ربما يبدأ صديقى من هنا بالضبط ، من اللحظة التى ذابت فيها المسافة وصرت متورطا فى الآخرين، بصورة تجعلنى أقترب من التلاشى فى هيئة شخص لا ينتمى لى. سيسمى ذلك غلطة لاعب السيرك ويحاول استعادتى من متاهة كنت مدفوعا إليها على نحو يليق برجل قدرى، ولأنه يريد ألا يثقل كلامه بالحواشى، لن يتورط فى الحديث عنى كبطل إغريقى يمضى نحو مصيره المحدد سلفا، فهو يعرف أن العادية قتلتنى وكشفت تناقضاتى، فلم أحتمل نثرية الحياة وشعرية الانحراف».
وربما تعبر قصيدة «غلطة لاعب سيرك» التى يحمل الديوان الأخير عنوانها أصدق تعبير عن حالة عزمى عبد الوهاب شاعرا، ففيها كل العناصر الجمالية التى يرتكن إليها عادة والتى تميز قصيدته ، من البحث عن الذات وأحلامها والرومانسية والموت الظاهر فى المشهد دائما والعالم القاسى والقتلة الذين تسببوا فى ضياع الأحلام والأيام وتصوره هو عن الذات الشاعرة وحركتها فى الحياة وفعل الكتابة نفسه، كما نجد الأساليب والتقنيات التى عادة ما يستخدمها الشاعر من كسر الإيهام إلى اللعب على الضمائر وتوجيه أكثر من خطاب داخل القصيدة والمراوحة بين السرد النثرى والغنائية الخالصة وكذا توظيف السرد النثرى ليثرى ويعمق المناخ الرومانسى للقصيدة:
«هذه القصائد سيعثر عليها صديق ما
وسط رماد السجائر فى غرفتى....
صديقى يترك كل شىء ويجلس إلى مكتب ويدون بعض الملاحظات عن أيامى الأخيرة التى قضيتها هنا، فى إضاءة شاحبة وغرفة لا ترى الشمس، يتذكر وهو يدون ملاحظة أخرى أننى لم أكن أحب النزول إلى الشارع وأخاف الزحام واللصوص، حتى إن شعرى منحنى هيئة مجنون أو شخص غائب طوال الوقت»، «غلطة لاعب سيرك ص 24-25».
هذا الرثاء المستمر للذات فى شعر عزمى عبد الوهاب لا يخلو من محاكمة للعالم القائم ورفض كل ما يخالف الأحلام الرومانسية القديمة التى مازالت تمثل الأساس المعرفى والمعيار الوحيد الذى يأمن ويرتكن إليه الشاعر فى لحظات البوح والكتابة، وفى ذلك يتوجه الشاعر نحو تعرية العالم الزائف ونقده واستحضار العدل والمحبة والمثال.