منذ الخمسينيات من القرن الماضى ومع انطلاق موجة قصيدة التفعيلة ، أصبح المسرح الشعرى غرضا ثابتا من الأغراض الشعرية ، يسعى كل شاعر يعتمد قصيدة التفعيلة إلى الإسهام فيه سواء بأعمال مسرحية منظومة ، من عبد الرحمن الشرقاوى وحتى مهدى بندق، أو حتى كتابة قصائد ممسرحة ضمن أعماله الشعرية مثلما فعل عفيفى مطر وأمل دنقل ، لكن هذا الصعود الكبير للمسرح الشعرى وارتباطه بقصيدة التفعيلة فى مصر ، لم يقابله نجاح حقيقى للمسرح الشعرى يضيف لفن المسرح أعمالا أصيلة وسباقة يمكنها الصمود أمام الزمن وتحولات الأنواع الأدبية ، وإذا استثنينا صلاح عبد الصبور ، يمكننا القول إن شعراء قصيدة التفعيلة فشلوا فشلا ذريعا فى التصدى لكتابة المسرح انطلاقا من اعتماد أقنعة التراث أو حتى الكتابة الموزونة لنصوص ضعيفة تفتقد إلى الخيال والرؤية المسرحية .
انسحب شعراء قصيدة التفعيلة إلى الظل ومعهم التصور الذى اعتمدوه للمسرح الشعرى وهو تصور متهافت وضعيف بالطبع ، ولكن المسرح ظل شغفا لعدد من الشعراء بعيدا عن قصيدة التفعيلة ، من محمد الماغوط إلى بول شاءول اللذين كتبا خصيصا مسرحيات تعتمد الحبكة والجملة الشعرية كما تقوم على المفارقة كأساس لمشاهدها ، وفى مصر كان الشاعر جرجس شكرى من القلائل الذين اعتمدوا الحبكة المسرحية فى قصائد دواوينه الشعرية بدءا من ديوانه " بلا مقابل أسقط أسفل حذائى -1996مرورا بـ " رجل طيب يكلم نفسه- 1998 وضرورة الكلب فى المسرحية -2000 و" والأيدى عطلة رسمية" 2004 ، و " تفاحة لا تفهم شيئا -2012، وحتى ديوانه السادس الذى بين أيدينا " أشياء ليس لها كلمات " الصادر مؤخرا.
فى ديوانه الأخير " أشياء ليس لها كلمات " الصادر عن دار آفاق بالقاهرة ، يستغرق جرجس شكرى فى تقنيات مسرح الحلم ، بغرائبيته وعلاقاته المتنافرة وسورياليته ، فهو يحاكم اللحظة المأزومة التى نعيشها من خلال مشاهد عبثية ، حيث تبدو الأشياء والكلمات والصور فى حالة سيولة ، كما فى الأحلام ، حرية فى العلاقات والأحداث وغرائبية فى الصور والأحداث ، لكننا لا نفت قد وسط هذه الأحلام أو الكوابيس خيط الشاعر الذى يقوم بدور المخرج أو مصمم السينوجرافيا على الصفحة البيضاء مستعرضا أمامنا قصيدته
فى القصيدة الأولى التى تحمل عنوان الديوان " أشياء ليس لها كلمات "، تتابع المقاطع أو المشاهد مثل اللوحات المسرحية بدون عناوين : " رتبوا كل شئ كما يجب /الندابة جاءت بعيون تملؤها الدموع/ومعها الحزن يكفى أياما كثيرة/ فى حين أبلغوا الراقصة أن تخلع ملابسها/ بما يحفظ هيبتها أمام الموسيقى/ ثم طردوا أثاث البيت / الكرسى والطاولة وإبريق الشاى/ وقالوا: ليكن فراغا يليق بكل حال" ص ص 13 -14
وفى قصيدة " مشاهد من حياة رجل بار" :" سأغلق مسرحي هذا المساء /وأطرد الممثلين خارجاً / يدي اليمنى سأتركها تفرحُ / مع قهوتي السوداء وسيجارة وحيدة / أما يدي اليسرى / أعرف أنها تفضّل البقاء عند النافذة /ربما تفعل شيئاً ضد العالم / أقدامي تعرف أين تذهب / فلا سلطان لي عليها / منذ أول رحلة قمنا بها سوياً /وقادتني حيث تريد فلم أعترض / رأسي سينصرفُ بهدوء كعادته / احتجاجاً على هذه الفوضى / وهنا / ستغلق عيوني الستار على نفسها / وتفرح بالنوم بعيداً عن الإضاءة / حتماً سيأخذ فمى إجازة مفتوحةً من الكلام / فهذا الجمهور لا أعرفه / وبين الحين والحين أحتاج أن أغلق مسرحي /وأذهب بعيداً ص ص39-40
يبدو جرجس شكرى أمينا لمسرح الحلم ومؤسسه يوجين يونسكو، ونكاد نلمح الأزمات المهيمنة فى مسرحيات مثل "جاك أو الامتثال " و"الكراسى" و"الدرس " ، وهى تتسلل إلى قصائد جرجس ،ونلحظ تيمات القهر ، انكسار الإرادة ، الإذعان ، خداع النفس ، الحزن الذى لا شفاء منه ، الروح العبثية ، انعدام الأمل ، القبح البنيوى الذى لا سبيل لإصلاحه فى هذا العالم ، القسوة ،و كل العناصر التى تمثل حالة الانحطاط الذى وصل إليها عالمنا الحاضر ، فلم يعد بإمكان الشاعر التعبير عنه بالعبارات المنطقية والعلاقات المستقيمة أو التراكيب ذات المعنى المباشر ، فيلجأ إلى بناء العبارات التى تربط بين أشياء متنافرة فى صور غريبة وأسيانة تقترب من لوحات مسرح العبث، الذى يجتهد للإمساك به ، وبحسب المشهد الأول من القصيدة الأولى " أشياء ليس لها كلمات" :
" حين يصل الصباح على عربة يجرها الموتى / يصل باكيًا، وتسقط عيوننا على الأرض / حين يسرق الآخرون حياتَنا / ويلبسون وجوهنا في وضح النهار /حين نموت برصاصة طائشةٍ / ضلت طريقها بمحض إرادتها/ حين نأكل طعامًا رخيصًا وننام في شوارع خائفةٍ / حين نتبادل القبل كعزاء واجبٍ /وندفن موتانا في ملابسنا خوفًا ومحبة ..." إلى آخر التيمة المتكررة
وفى القصيدة المعنونة بـ قصيدة " يتحول الشاعر إلى مخرج يشرح أمامنا كيف يبنى عناصر الحركة فى مسرحيته " فى هذه القصيدة / سنضع كلبا ومتشردا مع لص ومقهى كبير تحيطه الشمس من كل ناحية / وبالطبع لن ننسى بعض رجال ونساء يدخنون ويثرثرون / كضرورة حياتية / ثم نراقبهم من النافذة / عند الباب / يجلس الكلب فى صمت/ واللص يحوم حول المقهى / بينما ينام المتشرد فى كرسى عند النافذة" – ص ص 77-78.
العلاقات التى يبنيها جرجس شكرى فى هذه القصيدة أو ذلك المشهد علاقات مسرحية تماما ، وحركتها منضبطة وفق تصور لمسرح ذهنى فى عقل الشاعر ، و الدلالة النهائية لهذا المشهد مفتوحة على توتر محبب لدى القارئ الذى يتفاعل باستكمال المشهد ، هل يقتحم اللص المقهى ؟ هل يتدخل الكلب ؟ هل للمتشرد أى دور أو قيمة فى هذه الحبكة أم أنه شئ أو وجود رمزى؟ هل يكون المتشرد معادلا للضحية ، للمجموع الضعيف والمحروم والمهان ؟ من سيفقد حياته إذن ؟ ومن سيتراجع مهزوما إلى الماضى ؟ وهل يمكن استعادة الزمن ؟ وهل نبحث عن خيال يمدنا بمفاتيح لظلام المقهى ؟ إلى آخر الأسئلة المفتوحة على الخيال الذى يطابق الواقع والواقع الذى تحول إلى فانتازيا معتمة
هكذا إذن يمكن للخيال أن يتفاعل مع الأحلام والصور والقصائد المسرحية للشاعر جرجس شكرى ، بشرط إدراك الموجة التى يسبح داخلها والتيمة الدرامية التى يجتهد للإمساك بها و تتبعها حتى النهاية ، وهى غالبا نهاية مفتوحة على ذهن القارئ وروحه.