إسهامات الشاعر الكبير محمد فريد أبوسعدة متعددة ومتنوعة بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، بين المسرح الشعرى والرواية، وعلى مدار السنوات الأربعين عاما الماضية قدم دواوين «وردة للطواسين»، «السفر إلى منابت الأنهار»، «الغزالة تقفز فى النار»، «وردة القيظ»، «ذاكرة الوعل»، «طائر الكحول»، «أنا صرت غيرى» «مُعلقة بشص»، «جليس لمحتضر» وغيرها، وبقدر ما كان توجهه فى دواوينه الستة الأولى نحو التعبير الشعرى الخارج من رحم التصوف والمعرفة الروحية من خلال البحور الصافية فى قصيدة التفعيلة، إلا أن انتقاله لكتابة قصيدة النثر فى ديوانيه «معلقة بشص» و«جليس لمحتضر»، كان انتقالا سلسا يشى بقدرات كبيرة وخيال واسع ومزج بين الحلم والواقع، وتمرس على صناعة المشهد والسرد و الحكى وانتقاء اللقطات المكثفة بعناية بين مشاهد الحياة فى سنوات الخريف بما تشتمل عليه من ألم وهواجس موت ومرض وذاكرة تسترجع لحظات القوة والفتوة والانتصار فى أوان التراجع والانحسار.
يقول فى ديوانه «جليس لمحتضر»: «أمس / زارنى السهروردى / سلم علىَّ بالولاية / وجلس يشرب الشاى / كنا نتحدث عن الموت /فقال: قتلنى خليلى ثلاث مرات / سلط علىَّ جوعى مرة/ وألقانى من سور القلعة مرة / وفى الثالثة خنقنى بيديه/ كنت كلما فعل عاتبته وأظهرت له المودة / حتى كانت الثالثة فغضبت/ ورحت أزوره فى المنام مخنوقا/ حتى تورمت عيناه وقتلتْهُ اليقظة!
«كنت أنهض فجأة فأجد الموتى حول سريرى/ يسألوننى: لماذا تصرخ / فأدير فيهم عينى ولا أجد ما أقوله!/ الآن أصبحت أذكر كل شىء /أحلامى وأحلام غيرى أيضا! / ثم طورت أعمالى / فعندما يحلم واحد من خصومى أنه ينزلق إلى الهاوية / مقتلعا معه الجذور التى تشبث بها /سيجد عندما يهب مذعوراً جذوراً فى يديه/ وعندما تحلم المرأة التى عذبتنى بأننى سعيد مع أخرى / ستهاجمها الكلاب وستجد ثيابها ممزقة عندما تصحو» – «جليس لمحتضر».
الملمح الصوفى الذى صبغ المرحلة الأولى من قصائد فريد أبو سعد التفعيلية لم يختف تماما فى المرحلة الثانية التى تصدى فيها لكتابة قصيدة النثر، فظل هذا الولع الشفيف بمستويات اللغة الدلالية وأن يحملها دائما معنى يمكن تأويله، كما امتد هذا النزوع ليشمل المشهد المتكامل الذى تقوم عليه القصيدة أو المقطع الشعرى، وظلت فكرة المرأة المبصرة التى تقود الشاعر الضرير إلى رؤية ما لا عين رأت ولا أذن سمعت وإدراك مالم يخطر على قلب بشر مهيمنة على أجواء ديوانيه معلقة بشص وجليس لمحتضر، حيث يبدو أننا فى مواجهة انفصال الشاعر عن ذاته ليقيم حوارا مشحونا بمفردات العالم من حوله بين الأنا والهو، أو بين الروح والجسد أو بين ذاته الأولى التى تخالط الناس وتمشى فى الأسواق وبين وذاته الثانية المتسامية الرائية.
تزخر قصائد فريد أبو سعدة بالخيال، بالدمج بين الحلم والواقع، حتى لا تعود تعرف فى أى واقع يعيش أو عن أى عالم يتحدث، ورغم أن الشاعر عادة ما يرتبط فى قصائده النثرية بالمكان المباشر، الغرفة، البيت، الشارع، الجيران، المدينة، إلا أنه يرتقى فى القصيدة بالمكان لينفتح على الكون كله من خلال الأحلام والرؤى التى تمثل عنصرا أساسيا من عناصر تشكيل العالم الشعرى عن أبو سعدة.
«زرعت نخلة بالقرب من سريرى/ ورحت أتابعها وهى تنمو / كنت عندما أخلد للنوم/ أتخيل اللحظة التى سيصبح فيها البلح/ قريبا من يدى/ والصباحات التى سأستيقظ فيها على صوت العصافير/ هكذا راحت تنمو ورحتُ أنتظر/ أمس سمعت طقطقة/ ورأيت النخلة تندفع إلى أعلى /عبثا حاولت الإمساك بها / فقد عبرت السقف وطارت! /رأيت من الثقب قطعة من السماء وقليلا من النجوم /فصرخت: لا.. ليس هذا عدلا /ثم ما الذى أفعله بهذه النجوم! / وعلى عكس ما توقعت /لم تجبنى الملائكة التى أطلت من الثقب / كل ما فعلته / أنها مصمصت شفاهها وغادرتنى واحدا واحدا» - « جليس لمحتضر».
وفى مقطع آخر يقول: «ما إن يكون لك أصدقاء من الجن والعفاريت / حتى تشعر بالقوة / فتستطيع مثلا / أن تفسد ما يحاك ضدك فى الخفاء / وأن تموت من الضحك وأنت ترى تخبُّط الخصوم! / ولكن ما إن يكون لك أصدقاء من هذا النوع / حتى تمتلئ بالأسى أيضا /فسوف ترى المقربين وهم يدسُّون لك / وترى الحبيبة وهى تتمرن على خداعك! /ستكون بجوارها على حرف السرير / تراقبها وهى تتثاءب معك فى التليفون / بينما تضع اللمسات الأخيرة للخروج!».
أيضا الزمن الشعرى فى قصائد فريد أبو سعدة له مستويات عدة، وإن كان الطاغى على قصائده هو زمن المغامرة الشعرية التى تختلط فيه الأزمنة ويرتبك الحاضر والماضى وتحضر الشخوص التاريخية أو يذهب الشاعر بنا إلى المستقبل أو إلى الغرائبى المدهش والسحرى، ليمسك بعلاقات جديدة ومشاعر مختلفة داخل القصيدة.
«أحسست بالحرج عندما متُ فى غرفة ضيقة / بالكاد أخرجونى إلى الصالة وبدأوا فى العويل / كنت متضايقا من البدين الذى يدعك جسدى بقسوة / ومن الرجال الذين يتحدثون بالخارج / قلت لزوجتى: لا تصرخى/ وحاولت أن ألفت نظر البنت دون جدوى / كنت تعيساً لأننى لم أكتب وصية / ولأن الأحداث جرت هكذا دون مشورتى / صرخت فى الولد أن يحرق مسوًّداتى جميعا/ وألا يسمح لأحد من النقاد أن يستغلها ضدى «جليس لمحتضر».
تقنيات المونتاج السينمائى وصناعة المشهد حاضرة بقوة فى قصائد أبو سعدة مثلها مثل المنظور البنائى فى اللوحة التشكيلية، وهناك قصائد كاملة أو مقاطع فى ديوانيه معلقة بشص وجليس لمحتضر، هى مشاهد سينمائية متكاملة أو لوحات تشكيلية، وهو عادة ما يستعين بالمنطق السينمائى والتشكيلى حين يعالج لقطة زاخرة بالمفردات الواقعية، ليمنحها بعدا إضافيا فوق تقريريتها ونثريتها وعاديتها المشاع، فيرتفع بها إلى مستوى الشعر ومرتبة الادهاش.
عجوز على كرسى متحرك/ تدفعه امرأة بين السحب هناك/ ثم تتوقف فجأة و تواجه الجمهور: لم يعد فى إمكانى إرضاؤه، هذا الثرثار عديم النفع / صرخ المخرج : لا.. ليس هكذا، أريد انفعالا حقيقيا / بدأت من جديد /ولأنها كانت منفعلة جداً / فقد طار الكرسى / وشهق الجمهور وهو يسقط عليهم من علٍ / كنيزك قديم» = «جليس لمحتضر».
وإذا كان فريد أبو سعدة يعتمد أساسا على السرد والحكاية فى قصائده النثرية، كما يعتمد حسب المتن العام لقصيدة النثر المصرية على ما يسمى بمفردات الواقع المعاش والحياة اليومية بتفاصيلها المتعددة، إلا أن ميله إلى تجاوز الواقع بالحلم والسمو على الزمن الراهن بزمن المغامرة الشعرية، والتفاته إلى ما يتيحه الخيال من انفتاح على الواقع السحرى المدهش الذى يتجاور فيه الإنسان والعفريت، والأسد مع الغزالة والأسلاف مع البشر المعاصرين، منحه قدرة عالية على صناعة نص شعرى مدهش وزاخر بالدرامية ومنشغل بالمصير الإنسانى.