أجواء احتفالية سادت المشهد الأمريكى فى ذكرى يوم الاستقلال، بينما شابها فى الوقت نفسه حالة من التأهب غير المسبوق، وهو ما انعكس صراحة فى اختلاف طبيعة الاحتفال هذا العام، والذى بدا فيه الرئيس الأمريكى يستعرض القوة العسكرية المهولة التى تحظى بها بلاده، فى مرحلة تتسم بحساسيتها الشديدة، فى ظل أجواء متوترة، كادت أن تشعل شرارة الحرب قبل أسابيع قليلة مع إيران، على خلفية إسقاط الحرس الثورى لطائرة استطلاع أمريكية، ربما ليحمل الاحتفال رسالة تحذير شديدة اللهجة لخصوم واشنطن، ظهرت فى الخطاب تارة، والعروض العسكرية تارة أخرى.
الرئيس الأمريكى بدا حريصا على الاستطراد فى الحديث عن الجيش الأمريكى، وإمكاناته الكبيرة، والقدرات الجبارة لسلاح الجو تحديدا، معتبرا أنه صاحب الفضل الأول فى فشل كافة الخصوم فى تحقيق أى انتصار الولايات المتحدة طيلة تاريخها، فى الوقت الذى رفع شعار "تحية لأمريكا"، مؤكدا أن بلاده صارت أمة قوية الآن.
ولعل الحديث عن الجيش الأمريكى ليس جديدا على ترامب، فالرجل طالما أعرب عن تقديره للمؤسسة العسكرية منذ حملته الانتخابية الأولى، إلا أن حساسية التوقيت الذى قدم فيه ترامب رسائله، قد يثير العديد من علامات الاستفهام، حول ما إذا كان الرئيس الأمريكى بالفعل يوجه رسالته إلى طهران أو غيرها من خصوم أمريكا الدوليين، أم أن هناك أطراف أخرى، يريد أن تصل لها رسالته، فى ظل تهديدات عدة بالداخل، سواء من المناطق الحدودية بسبب تنامى معدلات الجريمة جراء زيادة أعداد المهاجرين، بالإضافة إلى حالة الاستقطاب والانقسام داخل المجتمع الأمريكى، بسبب ما يروج له نشطاء الفوضى، من أكاذيب تحت غطاء المعارضة السياسية وحقوق الإنسان، وهو ما خلق حالة من الجدل المتنامى حول سياساته بين مؤيد ومعارض.
المتابع للنهج الأمريكى منذ بداية حقبة ترامب، ربما يلحظ أن استخدام القوة العسكرية فى إدارة العلاقة مع الخصوم، أبعد ما يكون عن رؤيته، حيث أنه ربما يتبنى تصريحات نارية، تنتهى دائما بالجلوس على مائدة التفاوض وهو ما بدا واضحا فى التطورات التى شهدتها العلاقة مع كوريا الشمالية، صعودا وهبوطا، حيث بدأت الملاسنات بالتهديدات النووية والإهانات العلنية، لتصل فى أخر محطاتها إلى دخول ترامب إلى أراضى كوريا الشمالية كأول رئيس أمريكى يقدم على هذه الخطوة.
المشهد الأمريكى ربما يعيد إلى الأذهان مشاهد أخرى فى الماضى القريب، عندما ضرب الانقسام مجتمعاتنا فى الشرق الأوسط، وفى القلب منه مصر، فى أعقاب ما يسمى بـ"الربيع العربى"، فكان الإرهاب متأصلا فى المناطق الحدودية بفضل تمكين الجماعات المتطرفة فى سنوات الفوضى، فى الوقت الذى سعى فيه النشطاء إلى محاربة كافة المحاولات لاستعادة الأمن والاستقرار، تحت غطاء حقوقى وأحيانا بثوب المعارضة السياسية، بينما تجاهلوا حق المواطن فى استعادة أمنه سعيا لتحقيق الإصلاح، لتصبح المؤسسة العسكرية هى الضامن لحماية المواطن، عبر تضحياتها الكبيرة التى قدمتها، من أجل حماية المواطن ودحض التهديدات سواء فى الداخل أو الخارج.
وهنا يمكننا القول بأن الرهان الأمريكى اليوم هو نفسه ما سبق وأن راهن عليه المصريون من قبل، وربما تراهن عليه شعوب أخرى، وهو الجيش، باعتباره القوة الصلبة القادرة على السيطرة على زمام الأمور فى مراحل الخطر، سواء فى الداخل أو الخارج، وهو ما يمكننا من خلاله أن نلتمس أبعادا أخرى لرسائل ترامب فى يوم الاستقلال، لتتجاوز فكرة التهديدات الخارجية سواء من إيران أو غيرها، لتمتد إلى التهديد القادم من الداخل، والذى قد يساهم فى تقسيم المجتمع وهو ما ينذر بموجة غير محسوبة من الفوضى التى قد تأكل الأخضر واليابس.