خالد السنديونى شاعر صاحب مسار خاص للغاية ضمن سياق قصيدة النثر المصرية الراهنة، ودواوينه «نمر يبتسم - 2008»، و«اللاعب -2012» و«العالم يغنى - 2014» وأخيرا «الفارس الضائع - 2018»، يمثل كل منها مناخا فريدا وعالما مستقلا ومدخلا خاصا إلى الشعر والتأمل والدهشة الأولى وبراءة اكتشاف الشعر. نعم، خالد السنديونى شاعر وجد طريقا يخصه إلى كوكب الشعر وهو يسير فيه وحده مصطحبا حفنة من الذكريات، ومحصوله من الكلمات والروائح، وقدرا كبيرا من الخيال يحمله على ظهره مع هاجس الموت وهو يظن أن لا أحد يلاحظ الحمل الكبير الذى ينوء به.
من أين نبدأ مع خالد السنديونى؟ مع تجربته فى اكتشاف الشعر والإيمان به طريقا للخلاص؟ من تصوراته كمعمارى بناء قادر على وضع تصميمات لمناخات وعوالم شعرية وترجمتها إلى عمارات شاهقة من الخيال والصور والتركيبات اللغوية؟ من المداخل التى يكتشفها إلى عالم الشعر ومنها ينفذ إلى الحقائق الأولى والمعرفة الخام والتعبيرات البدائية، تعبيرات ما قبل التلوث والتشوش والاختلاط المزعج الذى تضيع فيه الأنساب؟ أم من باب الحكمة المقطرة والنزوع الوجودى الخالص والاطمئنان الصوفى أحيانا، باعتبار الإنسان حفنة من غبار متماسك، سوف تنحل عاجلا أم آجلا وتندغم مع الأرض التى تندمج بدورها مع شتى العناصر فى الكون.
فى ديوان «نمر يبتسم»، نلاحظ هذه النزعة التأملية وقد وجدت طريقها فى إعادة تأويل الكائنات، أو فى التصدى لكتابة سفر تكوين الغابة، التى هى أساس العالم والمدينة القاسية، وفى قصائد تحمل أسماء الحيوانات والطيور والنباتات وأحيانا الحشرات، نلاحظ هذه النزعة التأويلية لما ترسخ فى الذهن عن تلك الكائنات، من خلال وضعها فى سياقات جديدة أو التحدث باسمها واستنطاقها لتقول ما نهجس به نحوها أحيانا أو ما لا ننطق به من وعى صامت بشأنها، وأحيانا أخرى يقدم تأويلات خالصة لحركة هذه الكائنات فى العالم، يمكن اعتبارها مجرد تأويل جمالى للكائنات على غرار كتابات التحول والمسوخ فى تاريخ الأدب والشعر، كما يمكن اعتبارها لوحات حياتية وعلاقات اشتباك مع البشر أصحاب الأقنعة، ولكن بعد إسقاط الأقنعة..
فى قصيدة « صقر» يقول: يتمتع بقوة الحياة وسُمعة الموت/ فسرعته الفائقة تجعله يصل فى المكان المناسب /
وفى الوقت المناسب، أسّس مملكته فى الأعالى/ فوق الأشجار والغيوم/ يستطيع أن يجمد المشهد على الأرض /
لكن أزمته هى أزمة الوجود/ هو نفسه لا يُصدق أنه أعطى كل هذه القوة/ فقط لكى ينقض على فأر حقير!
وفى قصيدة بعنوان «غراب»: السماء لا تحبه/ ذاهبًا إلى أرض الحكايات/ قادمًا وحيدًا/ من زمن انقطاع الأخبار
أو مارًا عبر العصور/ ببطء آخر الآلام وأطولها/ السماء لا تحبه/ السماء تترصده/ وهو يجمع الإيحاءات المنطفئة من فوق أكوام المرارة.
أى صقر هذا الذى يعيد تأويله الشاعر هنا؟ وأى غراب هذا الذى يأسى عليه؟ مستويات التأويل تأخذنا إلى التفكير فى تلك الكائنات المجردة والنظر إليها بعيون جديدة، وربما دحض ما استقر فى وعينا بشأنها، من الصور الرمزية إلى التطير والتفاؤل، مرورا باستلهام أرواحها أو حتى تقمصها فى أحوال وأزمنة محددة
لكن على مستوى آخر من التأويل، نتعامل مع رؤية الشاعر لقناع الصقر أو قناع الغراب، فى تيار الحياة الإنسانية اليومية، وهو ما يتضح أكثر وأكثر فى تلك القصائد التى يتحدث فيها الشاعر بلسان الكائنات، أو يتقمص دور الكائن فى العالم، يقول فى قصيدة بعنوان «غزال»: ألم يحن الوقت بعد/ كى يُشكِّل الشعراء جيشاً ويأتون لإنقاذى/ لا مخالب تجرح/ ولا قرونا تهدد/ ولا فكا يقطع ويمزق/ ولا حتى زئيرا يسكت هستيريا القرود/ نهشت الوحوش جسدى فرادى وجماعات وأنا صامتة/ حتى ذلك لم يزرع فيّ رغبة الانتقام/ حتى ذلك لم يغير من ملامحى.
النهل من نبع المعرفة الأولى، حيث تشرق وحدة العالم وأخوية الكائنات، سمة تميز قصائد ديوان نمر يبتسم وكثيرا من قصائد الشاعر خالد السنديونى، ولذا، تتجلى فيها سمات النصوص الأرضية الأولى التى اجتهد أجدادنا الأوائل لإثباتها على الأشجار وألواح الطين والعظام وجدران الكهوف والمعابد، وهو ما يذكرنى بكتابات الصحفى والقاص الأرجوايانى الشهير إدوادو جاليانو الذى تصدى لإعادة إحياء التاريخ الإبداعى والنضالى لسكان أمريكا الأصليين.
وفى ديوانه الجميل والطريف «اللاعب»، يقدم خالد السنديونى أسطورته الشخصية بمهارة وصدق كبيرين، فهو لاعب الكرة الذى أغضبته مقولة لأرشيبالد ماكليش «الشعر وكرة القدم لا يجتمعان»، ليقرر بعدها أن يعارضه بديوان كامل انطلاقا من عبارة مفتاحية «الشعر وكرة القدم شىء واحد»، يصدر بها ديوانه ويوقع بعدها فى نوع من التحدى لـ«ماكليش»، وياله من تحدّ، فقد استطاع الشاعر أن يفاجئنا بعدد كبير من الأساطير المغمورة داخل قصائد الديوان، لاعبون مجهولون فى القرى والنجوع، قضوا أيامهم فى محبة كرة القدم وفى خوض حياة غنية بتفاصيلها ومليئة بمشاهدها الإنسانية الأسيانة، فى بساطة وبراءة، لاعبون لن يكونوا يوما نجوما ولكنهم أفنوا حياتهم فى عشق الساحرة المستديرة، انتظارا للحظة تاريخية، يقرر فيها «ثعبان منطقة الجزاء السام» أو خالد السنديونى تحويل ذاكرة قريته «سرسنا» والقرى المجاورة بمحافظة المنوفية «سلمون» و«ميت شهالة» و«الساحل» و«كفر عشما» إلى قصائد شديدة العذوبة والإنسانية، تجسد الصراع الإنسانى.
فى قصيدة «كبير المشجعين» يقول: «رجل مجنون/ لديه جيش صغير من المجانيـــن/ يدينون له بالولاء
دون أن يعرفوا السبب/ قائد انتصر فى مواقع عديدة/ وفى بلاد بعيدة/ رغم أن جيشه لا يدخل حروبا فى الصباح/ يرابط صامتاً/ عند قهوة الميدان وحولها/ حذارِ من الاقتراب منه/ حذارِ من إزعاجه..../
تخلص من عائلته بكلمة/ وتوجه إلى عمله ذات صباح/ وببصقة فى وجه المدير/ اشترى حريته/ تفرغ لحبه الوحيد/ لفنه الخاص/ فنه الذى يتراوح بين الأهازيج الرخيصة والصراخ/ بين الجنون والهستيريا المطعمة بالأغانى/ تقديراً له من الجماهير الغفيرة/ صنعت له منصة عالية/ من الورود والأعلام/ كى يرى الجميع/ الطريقة الفاتنة التى يهلل بها/ فى مواجهة الأقدار» .
وفى قصيدة « الساحل»: «رماة الأحجار فى المقدّمة/ ومشعوذو الملاعب فى المؤخّرة/ مروِّضو الأحصنة فى الميمنة/ ومشعلو الحرائق فى الميسرة/ هداف ساحل الجوابر بحذائه البالى/ الذى يرمى بالحصى فى وجوه الخصوم/ جاء فى موكب لا يحلم به ملك»
وفى قصيدة «المدرب العام»: درويش كرة القدم/ هتلر الملاعب/ مباحث أمن دولة المواهب الصاعدة
صوفى الأهداف القاتلة/ فى الهيئة الكاملة للمدرب العام/ الترزى الذى قفز فجأة إلى المشهد الكروى
من خلف منصة التفصيل/ والطموح فى عينيه والمقص فى يده».
قدرة خالد السنديونى تتجلى فى صناعة عالم كامل بتفاصيله الملموسة، بشخوصه وصراعاته، بلحظاته القصوى، بالفرح والحزن والخسارة والفوز، برهافة شعرية مميزة، لا يسهو عن هدفه الشعرى ولا يسقط فى إغواء التفاصيل النثرية، ولا الحكى المترهل عن معالم وشخوص يمتلك عنها معرفة حياتية واسعة، بل يقطر تلك المعرفة ليستخلص منها القمم والقيعان، اللحظات القصوى التى تتجلى فيها المصائر الإنسانية.
فى ديوانيه « العالم يغنى» و«الفارس الضائع» لا ينحو الشاعر إلى نحت عالم كامل كما فى ديوانيه نمر يبتسم واللاعب، بل يتجول فى العالم الواسع بنظرة مندهشة متأملة تبحث تحت سطح الأشياء عن تحولات كون بأكمله، متسلحا بنزعة عرفانية تستطيع احتضان الكائنات والجمادات، وعقد المصالحة بين الأشياء التى فرض عليها أن تكون متنافرة وفى حالة صراع وغليان، أو يكشف عن حالته الشعورية وما يعانيه من وحدة واغتراب وحزن.
فى قصيدة «أريكة» من ديوان العالم يغنى: «الأريكة/ الأريكة المنخفضة قليلا/ التى لا تحس بالخجل من آثار الجلوس الطويل/ التى تواجه التلفاز وتظن أنه العالم/ التى تجذب أنظار أى زائر/ دونا عن الأرائك الأخرى/ سواء وهو قادم أو عندما يقرر الرحيل/ يجلس عليها صاحبها... وأحيانا ينام/ التى تجاور النافذة حيث يمكن رؤية شجرة تحتشد عليها العصافير/ كل رجل وحيد لديه أريكة مثلها.