ذهبت إلى أتيليه القاهرة، لحضور أمسية تأبين شهدى نجل الشاعر الكبير نجيب سرور، وإحياء ذكرى رحيل الأخير التى تأتى بعد شهرين من الآن، فى حضرة عدد كبير من المحبين والمقربين من أسرة شاعرنا الراحل.
كان فى مقدمة الحاضرين فريد نجيب سرور، الابن الأصغر لصاحب "لزوم ما يلزم"، جلس "نجيب الابن" بملامحه المائلة إلى الروسية نسبة إلى أمه "ساشا" وذقنه الطويلة وهيئته التى توحى بالقوة، فى منتصف المنصة موزعا نظرته نحو الجميع، تائها شاردا، وكأنه يبحث فى داخله عن شىء، عن كلمات يحاول أن يراها فى وجوه الحضور، عن حروف يلملم بها مشاعره الحزينة المبعثرة.
جلس "فريد" وحين بدأ بالكلام ذرفت منه الدموع عنوة، صمت برهة وكأن الكلمات تقف حاجزا بين نطقها وبين الصمت، وكلما حاول أن يقول شيئا يتوقف ثانية وكأن الكلمات لا تستطيع الخروج من فمه، وربما لا تسعفه لتعبر عما فى دخله من أشجان عميقة.
المشاعر عند الحاضرين كانت متداخلة ومتناقضة تماما، الجميع سعيد برؤية أحد أبناء "الحبيب" نجيب سرور، والجميع نفسه حزين على فراق شهدى ويتحسر عن نهاية الأب والابن فى الهم والغربة.
فى البداية وبعد إلحاح من الحضور للحديث، أخذ فريد يستجمع الكلمات والذكريات، ثم سمح قليلا لكلماته أن تعبر وترك الحروف وحدها ترسم لوحة "آلام" نجيب سرور، وتجسد بصور حزينة شقاء الأبناء وأحزان الأم المكلومة.
كان الجميع فى حالة صمت، ينظرون إلى "فريد"، وينتظرون حكاياته كحكاء وقف أمام جمهوره الشغوف على ساحة مسرح فتح خصيصا لأجله، وما بين انتظار الحاضرين ودعم الزوجة والأصدقاء لـه على المنصة كى يستعيد كلماته، بدأ يحكى رحلة الآلام، تحدث عن "شهدى" الابن الذى دفع ثمن وصية أبيه بنشر قصيدته الأشهر "الأميات" على الإنترنت، حتى لا تنسى مع الأيام، فكان عقابه بأن يقضى آخر ما تبقى من عمره هاربا من أحكام بالسجن، وعن الأم التى تعانى فقدان الذاكرة فلا تعلم بوفاة الابن الكبير.
نظرات فريد ظلت طوال الوقت تائهة لا تعرف مستقرا لها، كحالة التيه التى يعيشها، كانت الكلمات تخرج خافته كأنها تنبش فى الذكرى عن أشياء وحكايات، وفى الأثناء تذكر قصة خروج آل سرور الأخيرة من البلاد بعد حكم جماعة الإخوان، تاركين بلاد "ياسين وبهية" تنتظر مصيرها المجهول، وفى وسط تلك الحالة تحدث عن مرض "شهدى" وكيف صارع الابن المرض اللعين كما صارع والده الأحزان، وعن "ساشا" أرملة نجيب الروسية التى تعيش الآن وحيدة مع أحزانها مريضة بأمراض الذاكرة، فقدت توقفت ذاكرتها كلها عند حدود قديمة لا تعرف سوى الأبناء وسيرة شاعر "الطوفان الأخير"، وكأنها لا تقبل فراق أكبر أبنائها، ولا تريد أكثر من سيرة ذلك النجيب التى عاصرت آلامه الأخيرة.
فى النهاية وبملامح صامتة تماما وكلمات تتعثر فى الخروج، عبر فريد عن سروره وعن حالة الحب والألفة التى شعر بها فى مصر، وتعجب من وجود كل هذا الكم من "الأحباب" الذين أتوا لرثاء شهدى وتذكر نجيب.، خرجت بعد كلمة "فريد" لتوى من الأتيليه، وظلت كلماته الأخيرة تتردد فى ذاكرتى، ووجدتنى أسأل عن سر هذا الحب الذى بداخلنا لفارس الكلمة النبيل نجيب سرور وهل سيرته وأهله وكل من جاء من ريحته هم بالضرورة أحباب، فوجدتى أهتف "طبعا أحباب" وسنظل.