يبدو أن جولة الإعادة فى الانتخابات التونسية سوف تكون حامية الوطيس، فى ظل انحسار المنافسة بين المرشحين اللذين حازا أكبر عدد من الأصوات فى الجولة الأولى، وهما قيس سعيد، ونبيل القروى، خاصة وأن الفروق بينهما ليست كبيرة على الإطلاق، وهو ما يفتح الباب أمام صراع انتخابى قوى فى الجولة الثانية، سيدفع كلا منهما للعمل على استقطاب أكبر قدر من المؤيدين، سواء من الكيانات السياسية القائمة، أو حتى الحركات التى تعمل فى الظل، سعيا وراء الجلوس على عرش قرطاج.
ولعل المفارقة المثيرة للانتباه أن المرشحان المتنافسان نجحا فى الحصول على أعلى الأصوات فى الجولة الأولى رغم غياب الظهير الحزبى القوى، حيث أن سعيد لم يحظى بدعم من قبل أى حزب سياسى، فى الوقت الذى تبنى فيه خطابا انتخابيا مفاده أن عصر الأحزاب السياسية ولى وفات، بينما يبقى نبيل القروى مدعوما من حزب مغمور، وهو حزب "قلب تونس"، لم يحظى بشعبية كبيرة فى الداخل التونسى.
وهنا يثور التساؤل حول ما إذا كان الرهان على الأحزاب السياسية والتكتلات القائمة سيكون مجديا فى جولة الإعادة، أم أن الأمر يرتبط بقدرة المرشحين، على مخاطبة المواطن، والتلامس مع مشكلاته، والتى تأتى فى مقدمتها المخاوف الاقتصادية، جراء تنامى البطالة، وزيادة الغلاء، وهو ما يمثل نتيجة مباشرة لحالة الفوضى التى هيمنت على البلاد لسنوات طويلة، منذ بداية ما يسمى بـ"الربيع العربى".
التجربة التى يخوضها سعيد والقروى ترتبط إلى حد كبير، ليس فقط بالداخل التونسى، ولكن بالعديد من التطورات الدولية التى يشهدها المجتمع الدولى فى المرحلة الراهنة، والذى تجاوز فيه المواطنون، فى العديد من دول العالم الأبعاد الحزبية والأيديولوجية، لصالح خطابات القادة الجدد، والتى عكست إدراكا واسعا لقضايا الداخل، ومخاوف المواطن، بعيدا عما يمكننا تسميته بالمبادئ المطاطة، التى أضرت بهم كثيرا.
فلو نظرنا إلى التجربة التى يشهدها الغرب فى المرحلة الراهنة، نجد أن المبادئ التى تشدقت بها الأحزاب، والتى ارتبطت بحقوق الإنسان ونشر الديمقراطية فى العالم، لم تؤتى ثمارها على الداخل، بل على العكس، فقد كانت سببا فى العديد من التهديدات التى أحاطت بهم من العديد من الدول الأخرى، والتى سعت فيها الأنظمة إلى انتهاج سياسة "الفوضى الخلاقة"، والتى أدت بالفعل إلى إسقاط الأنظمة التى طالما وصمها الغرب بـ"الديكتاتورية"، ولكنهم فشلوا فى استبدالها بأنظمة ديمقراطية على الطراز الغربى، ليحل محلها الإرهاب، الذى صار لا يكتفى بمجرد استهداف المصالح الغربية فى دول المنطقة، وإنما سعوا إلى استهداف المواطن الغربى نفسه فى الداخل عبر تنفيذ العمليات الإرهابية.
من جانب أخر، تبقى نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التونسية، درسا مهما لمرشحا الإعادة، خاصة وأنها كانت بمثابة ثورة جديدة، يمكننا تسميتها بـ"ثورة التصحيح"، على ما أفرزه "الربيع العربى" من حركات وتكتلات، وبالتالى فإن السعى نحو استقطاب مثل هذه التكتلات ربما لا يصب فى صالح أى منهما.
رهان مرشحى الرئاسة فى تونس ينبغى أن يرتكز بصورة رئيسية على المواطن التونسى، باعتباره صاحب الأولوية القصوى، فى الأجندة الرئاسية، لتعويضه عن سنوات الفوضى التى عاشها منذ أكثر من 8 سنوات، عبر تحقيق التنمية الاقتصادية، واتخاذ خطوات جذرية نحو القضاء على كافة التحديات التى تواجهه فى المرحلة الراهنة.