الدراما التليفزيونية تتجاهل أعظم البطولات العسكرية!

بالروح والدم.. دفع المصريون "جيشا وشعبا" الثمن غاليا فى ساحات النضال والشرف، فمنذ العدوان الثلاثي، ومرورا بالنكسة فى (1967)، وحرب أكتوبر المجيدة (1973) التى نعيش ذكراها الـ 46، وحتى حرب الإرهاب الحالية، سجل الجندى المصرى أروع البطولات العسكرية، خاصة تلك القادمة من زمن الهزيمة والتى قادت إلى النصر، وقهرت العدو بأقل الإمكانات لتصير نموذجا يحتذى ويدرس فى أعرق الأكاديميات العسكرية فى العالم. ولأنها حكايات أسطورية لابد أن تروى لأجيالنا الحالية ليعرف الأحفاد حقيقة ما فعل الأجداد، كان ولابد أن نطرح سؤالا جوهريا وملحا: "لماذا تتجاهل الدراما التليفزيونية - تحديدا - أعظم البطولات العسكرية؟، خاصة أنها أصبحت الأكثر تأثيرا فى نفوس الجمهور، بما تملكه من قدرات فنية عالية على جناح عناصر التشويق والإبهار التى تمكنها بالضروروة من رصد مآثر الجندى المصري، الذى اعتمد فى كل الأحوال على إرادة قوية وعقيدة إيمانية وعسكرية راسخة من فجر التاريخ وحتى يومنا الحالى ليضرب أروع الأمثلة فى التحدى والفداء. هذا السؤال طرأ على ذهنى الآن، ونحن نحتفل بمرور 46 عاما على حرب أكتوبر المجيد، فعلى الرغم مما قدم من أفلام حربية مازالت السينما المصرية عاجزة عن تقديم دراما واقعية ترصد تلك المعركة العظيمة التى حقق فيها الجيش المصر أعظم الانتصارات فى تاريخه الحديث، فلم تقدم تلك الأفلام تجسيدا حيا لما حدث بالفعل أثناء تلك الحرب العظيمة من معارك ومشاهد حربية سالت بسببها دموع قادة الجيش الإسرائيلي، فضلا عن إظهار تلك الحقيقة بصورة حية أكدت على القدرات الخيالية التى قدمها الجيش المصري. بل إنها مرت مرور الكرام بشرائطها السينمائية على جنودنا وهم يسطرون بدمائهم أعظم انتصار فى تاريخ هذا البلد، ولم ترصد فرحة بالنصر مختلطة بحزن على فراق الأحباب الذين راحوا ضحية هذا الوطن، رغم ما تملكه من مشاهد قادرة على أن تصنع أفلام سينمائية لا عدد لها، حرب بحجم أكتوبر وانتصار كهذا وتفاصيل غاية فى الأهمية، كل هذه الأشياء قادرة على أن تحرك حفيظة المنتجين وصناع السينما فى مصر لأن ينتجوا مئات الأفلام التى تتناسب مع حجم الحدث وأهميته. 8 أفلام فقط تعد أشهر ما أنتج عن 6 أكتوبر 1973 من بينها "الطريق إلى إيلات" و"حتى آخر العمر" و"الرصاصة لا تزال فى جيبى" الذى كان آخر ما أنتج عن حرب أكتوبر عام 1993، وقد مر أكثر من ربع قرن امتنع خلاله المنتجين عن إنتاج المزيد من أفلام تكون أكثر تطورا عن حرب أكتوبر، ومن ثم فإن الأمر يتطلب الآن المزيد من الإنتاج فى وقتنا الراهن، ولست أعرف على وجه التحديد السبب الرئيسى وراء تراجع المنتجين عن فعل ذلك، خاصة أن مثل تلك الأعمال يمكن أن تحفظ تاريخنا، فهى لا تقل أهمية عن الكتب التى تقص وتحكى حرب أكتوبر. ولعل فشل السينما قديما يمكن أن تعوضه الدراما التليفزيونية حاليا فى وقت تنمو فيه نموا مضطردا على مستوى الإنتاج والتقنيات التى يمكن تجسد أروع الأعمال التى تستلهم البطولات الأسطورية من رحم معارك الجيش التى حدثت فى أكتوبر 73، فلاتزال الدراما المصرية حتى وقتنا الحالى هى الأخرى تغمض عينيها ولم تنتج مسلسلا واحدا يرصد بطولة المقاتل المصرى على خط القنال، فى وقت لعب فيهما الجيش المصرى دورا بارزا فى العبورالأول، ومازال يلعب نفس الدور فى العبورالثانى إلى شاطئ الأمان حاليا فى حربه ضد الإرهاب. معروف أن الدراما التليفزيونية هى التى نقلت المعرفة بالتاريخ من دوائر الدراسة الضيقة إلى دائرة المعرفة الشعبية الواسعة، لكن تبقى الدراما التاريخية - التى يفترض أن تنتمى لها البطولات العسكرية - هى العامل الأكثر تأثيرا فى تشكيل الوعى العام بالتاريخ أكثر من كتابات المؤرخين فى عصرنا الحالي، وربما أكثر من كتب التاريخ المدرسية، فالمعرفة العامة بقائمة طويلة من الشخصيات والأحداث التاريخية التى تمتد من أبطال الأساطير اليونانية، مرورا بملوك الطوائف وحتى دراويش الصوفية فى أربعينيات القرن الماضي، جاءت من الأعمال الدرامية فى المسرح والسينما والراديو وأخيرا المسلسلات التليفزيونية أكثر من أى مصدر آخر. ومن هنا أرى أن تلك الأهمية القصوى للدراما التاريخية أو العسكرية مرشحة الآن أكثر من أى وقت مضى لأن تستخدم على نطاق واسع فى جهود بناء الهوية الوطنية والوعى العام والدعاية السياسية، كما بدا لنا من دروس عملية وواقعية فى فيلم "الممر"، والذى على الرغم من أنه جسد بطولات قادمة من زمن الهزيمة لكنها ساهمت إلى حد كبير فى تشكيل الوعى لدى شباب اليوم، تماما كما كانت تفعل ذلك الدراما التاريخية منذ وقت بعيد، حتى قبل ظهور الراديو والتليفزيون فى مختلف أنحاء العالم. ربما يرى البعض أن مشكلة الدراما التاريخية الآن هى أن قوتها تحولت إلى نقطة ضعفها الأساسية، فالانتشار الهائل الذى تحققه الدراما التاريخية للأحداث والشخصيات التى تعالجها بين مختلف الطبقات أصبح يمثل خطرا على حقائق التاريخ، لكن الأمر يبدو مختلفا إذا ما كانت تستند إلى بطولات حقيقية قادمة من رحم العسكرية المصرية، كما هى مسجلة بحروف من نور فى سجلات شرف جيش مصر على مستوى البطولات والأحداث والشخصيات التى ضربت أروع الأمثلة فى التضحية والفداء من أجل الوطن، تماما كما حدث فى السادس من أكتوبر 1973. ولعل ما يشجع على ذلك أنه خلال سنوات القرن العشرين تطورت أساليب البحث التاريخي، وأصبحت كتابة التاريخ علما مستقلا تغيرت فلسفته، فلم تعد مهمة المؤرخ تنحصر فى سرد الأحداث سردا روائيا، فالأحداث وحدها لاتصنع التأريخ، ولكن أصبحت مهمة المؤرخ أن يشرح ويفسر الفلسفة التى تجمع بين تلك الأحداث، وقد اقتربت الدراما أيضا من هذا المعنى متكأة على إبهار وسحر الصورة، فالأعمال الدرامية التليفزيونية الآن تضع الأحداث فى منظور له معنى يساعد المشاهدين على فهم أحداث التاريخ، وإدراك معانى البطولات. ولم يعد من الضروى أن تكتسب نفس الأحداث فى التاريخ والدراما نفس المعاني، وهنا أصبح الاختلاف حقيقة واقعة بين كتاب الدراما والمؤرخين، فالهدف عند المؤرخ هو سرد الأحداث بأكبر قدر من الدقة، أما كتاب الدراما فيبقى الهدف عندهم هو أن يشعر المشاهد من خلال شخصيات الأحداث التاريخية والعسكرية كما لو أنه عايش تلك الأحداث. وتلك غايتنا من تجسيد التاريخ العسكرى للجيش المصرى دراميا، وهذا الهدف يسمح لكتاب الدراما بالتعديل والتغيير فى بعض الأحداث، والتى من شأنها إبراز أهمية مايقوم به الجيش (ضباط - صف – جنود)، عبر ما يمكن أن تقدمه إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة من تسهيلات ودعم فى هذا الاتجاه. وفى هذا المقام يجدر بى القول: إنه لابد أن يشارك الصحفيون المؤرخين وكتاب الدراما فى كتابة التاريخ الحقيقى للعسكرية المصرية، فأول نسخة من التاريخ تظهر على صفحات الصحف، ونادرا ما تصبح النسخة النهائية، فالروايات الصحفية للتاريخ تخضع فيما بعد لأعمال المؤرخين، ولكن ذلك لايعيب عمل الصحفيين الذين هم كما وصفهم "فيليب جراهام" ناشر "واشنطون بوست" بأنهم "مؤرخون على عجل". وهو أمر منطقى جدا، فليس للتاريخ وجه واحد حتى لدى المؤرخين، وحقائق التاريخ ليست كثيرة وليست مؤكدة، ولكن القضية تظل مطروحة بشدة حين يجترئ على التاريخ من ليس مؤهلا للتعامل معه، ومن يفتقد الحس التاريخى ومن يلوى أعناق التاريخ طلبا لأهداف سياسية أو جماهيرية، خاصة فيما يتعلق بحقائق البطولات العسكرية على وجه التحديد، لأن الحقيقة المرة تشير إلى أن الدراما فى العالم العربى لا تكتب التاريخ بقدر من المسئولية، حتى فى ظل تناميها المضطرد واتساع رقعة التقنيات المستخدمة فى صناعة مشاهد مبهرة. كما أن جموع الناس لا تكترث بالفروق بين مهام المؤرخين ووظيفة كتاب الدراما، والمحصلة النهائية أن الغالبية العظمى من الناس تميل إلى إدراك العالم التاريخى كما تصوره الدراما على أنه الواقع، غير عابئة بحقيقة أنه يختلف عن كثير من الحقائق التى تأتى بها كتابات المؤرخين، فالدراما طاغية وقادرة على إخضاع التاريخ لمقتضيات العمل الدرامى ومنطقها لا يقبل العكس. ولأجل كل ما سبق أحب أن ألفت نظر صناع الدراما التليفزيونية ونحن على أهبة الاستعداد لموسم رمضان 2020، إلى ضرورة تضمين تلك الكعكة السنوية على جرعة جيدة من دراما البطولات العسكرية المصرية، بعد أن أثبتت جديتها فى التأكيد على الهوية الوطنية، من خلال ماشاهدناه من إقبال الشباب على تلك النوعية كما حدث فى فيلم "الممر" وشعار الصاعقة " قالوا ايه علينا دول "، وهو ما يوحى باستيعاب جيل جديد لأشكال البطولات العسكرية. ومن هذا المنبر أطالب وبشدة صناع الدراما فى هذه المرحلة المفصلية من عمر الوطن، إدارة الدفة نحو البطولات العسكرية للجيش المصرى لترسيخ مفاهيم الوطنية والانتماء على نحو محترف، خاصة أن لدينا قصص وبطولات قادمة من رحم أكتوبر العظيم ترقى فى مستواها الدرامى إلى ما هو أسمى بكثير مما تقدمه هوليود من أفلام عسكرية تركز على العنف والحرب، وهى فى هذا لاتهدف سوى تمجيد بطلها السينمائى الخارق. وعلينا فى الوقت ذاته أن نرى فى تلك الأعمال ما تراه هوليود فى هذا النوع السينمائى منجما ذهبيا يدر عليها ملايين الدولارات، وإلا فما معنى إطلاقها العروض العالمية لمجموعة من الأفلام الحربية، التى تدور فى فلك تمجيد البطل، ورفع شأنه عاليا على الشاشة الكبيرة، وبينما نحن غائبون عن تمجيد أبطالنا، تصر هوليوود إذن على تمجيد بطلها الخارق، ولا تستطيع أن تتوقف عن إنتاجه بأشكال مختلفة، وإن بدت هذه الأشكال متشابهة لا يمكنها أن تعيد النظر جذريا بالصورة الخيالية التى صنعتها عنه، فهو المنقذ من الخراب الذى أصابها على الشاشة الكبيرة. الفرصة سانحة الآن ياسادة فى ظل تمايزها الحالي، حيث تحولت الى صناعة رمضانية بامتياز، وتحرك دورتها الانتاجية ملايين الدولارات، لذا يبقى على عاتق صناعها مسئولية تقديم تلك بطولات العسكرية كنوع من تطهير البيئة الفاسدة التى أصبحت مرتعا للفوضى والعشوائية وضياع الهوية، ولعل فى انجازات وبطولات الجيش المصرى الكثير من العبر من شأنها الحفاظ على الهوية الوطنية المستمدة من دروس الحرب والسلم ومواجهة الإرهاب، وهى كفيلة بأن ترسخ فى الذاكرة الشبابية أسطورة جيش مصر الوطني، الذى انحاز للشعب منذ فجر التاريخ ويقدم شهداءه حتى اليوم، بل يقدم كافة أفراده أنفسهم كشهداء تحت الطلب يوميا حفاظا على تراب هذا الوطن. وفى النهاية اعتقد أن تقديم مثل هذه الأعمال عن حرب أكتوبر العظيم التى ينبغى أن نحتفل بها هذا العام على نحو مختلف فى ظل ما يقوم به الجيش المصرى حاليا من بطولات أسطورية بالتصدى للإرهاب، وهذا يعتبر فى حد ذاته نوعا من تقديم صورة قوية عن مصر، ويشير فى الوقت ذاته إلى حقائق التاريخ القديم والحديث ووقائع ومعطيات الحاضر التى تؤكد إلى صدق من لا ينطق عن الهوى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذى شهد لجند مصر قبل أربعة عشر قرناً من الزمان بأنهم خير أجناد الأرض وأنهم فى رباط إلى يوم الدين.. تحيا مصر ويحيا جيشها البطل.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;