أصعب شىء على أى شخص أن يتهم فى وطنيته، ولكن أصعب شىء عند العسكريين بالذات، هو أن يفرط فى أرضه، والأمر لا يحتاج لدليل فهو يعد العدة والخطط، ويضع روحه على كفه لو أى حد مس أرضه ومستعد يرجع جثة قبل أن يعتدى على أرضه.
اليومين اللى فاتوا تمت إهانة الدولة بكل مؤساستها، الجيش والخارجية والأمن القومى إهانة ما بعدها إهانة، فقد قال عنهم البعض إنهم فرطوا فى جزيرتين مصريتين لصالح المملكة العربية السعودية.
يعنى بعض الناس «إعلاميين وكتاب وشخصيات عامة» قالوا إن اللى حصل ده غلط، وإن كان لازم الموضوع يدرس أكتر من كده، ولا يمكن التفريط فى أى شبر من الأراضى المصرية.
والكلمتين دول معناهم الطبيعى والمباشر إن لا الجيش ولا الخارجية ولا بتوع الأمن القومى عملوا شغلهم صح فى قضية تخص السيادة على الأراضى المصرية، وتوجيه هذا الكلام من وجهة نظرى يمثل إهانة كبيرة.
بقى أنت يا عم المذيع، ويا عم الكاتب، وياعم يا بتاع تويتر، متخيل إن الناس دى منتظرين سيادتك علشان تعلمهم يعنى إيه معنى الأرض وتعلمهم يعنى إيه دراسة الموضوعات المتعلقة بالأمن القومى؟ طب بلاش، هما يقلوا إيه؟ أو بالأحرى بأمارة إيه تزيد أنت عليهم وطنية؟
لو كنت مكان العاملين بهذه الأجهزة لبكيت وأنا أسمع هذا الكلام.
بقى أنا أخدم بلدى من أول ما كنت طالب فى الكلية الحربية، وبعدين ملازم لحد ما أبقى لواء، أخدم فى كل مكان على أرض مصر، ثم أشتغل فى الأمن القومى أو فى المخابرات الحربية أو الناس تراهن عليا، وتستأمنى على بلد بحالها فى وقت كانت فى أيادى الشر بتنهش فيها وتختارنى أبقى رئيس جمهورية، وتيجى سيادتك على آلاى باد بتاعك، أو فى جورنالك، أو فى البرنامج بتاعك، تقولى أنت ما شوفتش شغلك كويس فى الموضوع ده وتعلمنى يعنى إيه التفريط فى الأرض!
طب وإيه يعنى هو مين قال إن الرئيس يعلم كل شىء؟ وأنت نفسك بتنتقده فى بعض الأمور؟ صح وأكبر صح، بس مش فى المواضيع دى، أنا ما أقدرش أروح أقوله قولى خطة الجيش التالت الميدانى للدفاع عن مصر أو أقوله أنت زاى ناشر قواتك فى سيناء أو أنا ماشوفتش تمن الرافال الجديدة اللى خدتها من فرنسا قولى جبتها بكام؟ لا ما ينفعش وفى العالم كله ما بينفعش ومتعليش صوتك قوى وتفتى، فى حاجة اسمها الدولة اللى لازم يكون لديها قائد يؤتمن على أسرار لا يجب إطلاع العامة عليها، الدول كلها بتدار كده.
لكن ينفع تكلمه فى الكهرباء فى الغاز فى الأمن فى الحريات فى أى شىء دى أشياء تخص العامة، لكن ما يتعلق بالأمن لقومى ده شغله المؤتمن عليه.
طيب، لو أراد الرئيس اتخاذ قرار سيعلن للناس زى رسم الحدود البحرية مع السعودية هاتقولى تطبيقا للقاعدة، فهو وأجهزته مؤتمنون على ذلك وطنية وعلما، صح.
لكن هنا الوضع مختلف تماما، خللى بالك أنت بتخاطب شعب فى نقطة مهمة جدا متعلقة بكرامته وسيادته على أرضه يمكن للجهلاء والأعداء أن يستغلوا جهل البعض، وحقد البعض الآخر لكى يقلبوه على إدارة بلده وأن يستغلوا حسن نية البعض والغيرة الوطنية للبعض الآخر كى يقوموا بمواجهات مع الإدارة المصرية.
وهذا ما حدث بالفعل، فكثير من الناس قالت نعم نثق بالرئيس، لكن نحتاج أن نفهم نحتاج شرحا واقعيا قانونيا مبسطا لمسألة الجزر التى ستسلم للسعودية بموجب اتفاقية ترسيم الحدود.
ويومين كاملين واللى عنده كلمتين قالهم، واللى عنده ورقتين طلعهم. واللى اتريق، واللى شمت، واللى زايد على الدولة.
لذلك كان لازم تفهموا الناس قبل ما يتم التوقيع، كان لازم يتشرح لهم إن فى لجنة من الخارجية والدفاع والمخابرات والبترول وهيئة الاستشعار عن بعد وأساتذة قانون دولى وأساتذة تاريخ وجولوجيين، كلهم شكلوا لجنة اشتغلت جوه مصر وبره منذ سنوات كى نصل إلى هذه النتيجة.
كان لازم تظهر الدولة بنفسها الوثائق التى تدل على أن هاتين الجزيرتين كانتا أمانة لدى المصريين، كان لازم يعرفوا إن السيادة المصرية، ونقطة الشرطة عليهما كانت مؤقتة، وإن الأصل أنهما ملك للسعودية، وإن الموضوع له أساس تاريخى مثبت فيما بين الطرفين، كذلك اختفت تماما فى النقاش الجوانب الإيجابية التى نتجت لمصر من توقيع ترسيم الحدود، فى ظل هذا الكم من الصخب، ولم يتم شرح ما الجدوى الاقتصادية التى تعود على مصر من هذه الاتفاقية، لدرجة أن البعض اتهم الدولة أنها باعت هاتين الجزيرتين بمقابل عائد اقتصادى.
والكارثة الحقيقة هى أن الدولة تعاملت مع هذا الصخب ببيان فاتر من الحكومة يزيد التشكك، ولا أفهم كيف لبعض العسكريين القدامى أن يخرجوا ويشككوا فى هذه الخطوات، وكيف لهم أن يخاطبوا الرأى العام دون إذن من الجهات التى كانوا يعملون بها، وطبعا استغل البعض أحاديث العسكريين القدامى كى يزيد الأمر اشتعالا، كذلك سفيرا سابقا اطلع بمناسبة عمله على مراسلات سرية خرج للرأى العام، وأفتى أن إحدى الجزر مصرية والأخرى غير مصرية، بناء على وثيقة اطلع هو عليها، علما بأن الخارجية، وهى المؤسسة التى كان ينتمى إليها قالت عكس ذلك.
وبشكل عام التعامل تم بلا منهج لا قبل الحدث ولا بعده، ومن هنا وقعت الواقعة التى مازلت أقول إنها إهانة لكل الدولة مجتمعة فى أن يشكك ولو للحظة، فى أنهم لم يقوموا بعملهم على ما يرام فى مثل هذا النوع المهم من القضايا، وترك الأمر للفيس بوك وتويتر وورقة من هنا، وورقة من هنا واللى عنده حدوته بيقولها واللى عاوز يطلع فى التليفزيون فرصة ومش مهم البلد.
طب هنا لازم أقول للدولة، كان لازم تتكلموا مع الرأى العام، لازم تخاطبوا الناس وتفهموهم ولا تتركوهم لغيركم كى يغذى أفكارهم بعكس الحقائق والأمر ده أصبح متكرر، شفناه فى قضية مقتل الباحث الإيطالى ريجينى، وخيبة ما بعدها خيبة فى تداول الموضوع.
طيب نتعلم بقى من اللى حصل..
هو اقتراح واللى عاوز يا خد بيه أو ياخد فكرته ويطوره أهلا وسهلا، مش عاوزين، يبقى الموضوع اللى جاى هاتخبطوا فى ردة فعل الشعب تجاهه زيه زى اللى قبله، ولو كترت المواضيع هتبقى مشكلة مش هاتقدر ساعتها الدولة تواجهها بشعبية الرئيس، اللى بقت حائط الصد الذى أصبح تناله سهام كثيرة.
لذلك أقترح أن تشكل لجنة مستقلة من الخارجية والدفاع والأمن القومى والداخلية وبعض الخبراء فى مجالات عدة يكون دورها إدارة الأزمة مع المجتمع، وأنا دقيق جدا فى الوصف، لا أقول إدارة الأزمة، لأن لكل أزمة لها جهة متخصصة تديرها، ولكن أقول كيفية إدارة الأزمة مع المجتمع، وتكون هذه اللجنة تابعة للرئيس مباشرة وتختص بالقضايا الكبرى سواء فى الداخل أو الخارج، ويكون دورها الأساسى هو كيفية توصيل القضايا للمواطن، وكيفية شرحها أيضا للخارج، وإصدار البيانات السريعة والدقيقة والتصحيح للإعلام حال تناوله خطأ لبعض القضايا والإجابة عن أسئلة الناس التى تشاع على مواقع التواصل الاجتماعى.
تانى لا أقول لجنة إدارة أزمات لكن أحدد أنها لجنة للتعامل مع الشعب وأيضا نقل وجهة النظر المصرية بشكل رسمى للخارج، وأعنى بالخارج المجتمعات الدولية والإعلام الدولى وليست الحكومات، لأن هذا دورا يقتصر على الخارجية، يكون على هذه اللجنة شرح قرارات التوقيع على المعاهدات أو شرح القرارات الاقتصادية الكبيرة التى تمس الناس أو شرح أسباب ارتفاع الدولار، أو الحديث عما تم فى المشروعات الكبرى، ولا تقول لى ما ده دور المتحدثين باسم الحكومة، لأن الإجابة هاقولها لسيادتك إنهم جميعا أخدوا صفر فى التجارب الأخيرة.
والحقيقة الذى دفعنى لهذا الاقتراح هو أن ثقة الإدارة الحالية فى طريقة عملها، وفى صدق نواياها جعل هناك بعض التجاهل للشعب فى إطلاعه على مجريات الأمور، وهو أمر خطير جدا لا يقبل من حيث المبدأ، ولا يسمح به الشعب أيضا، فمهما كانت ثقتنا فنحن الشعب أصحاب الحق الأول، وتأتى الإدارة بعدنا.
واقتراحى بأن تضم هذه اللجنة عدة جهات لم يأت من فراغ، لأنه فى كثير من الأحيان هذه الجهات ترمى على بعضها المسؤولية، فيقولون هذا دور الخارجية أو هذا دور المتحدث باسم الحكومة أو المتحدث باسم الرئاسة إلى أن تقع الواقعة ويقف الشعب دون أن يأخذ شرحا أو مبررا لخطوات يفسرها له البعض وفق هواه.
طبعا رغم حزنى الشديد للموقف الأخير ولحالة التخبط الرهيبة التى ترك فيها الشعب فى موضوع الجزيرتين، إلا أننى أيضا تزداد قناعاتى كل يوم بمدى وطنية هذا الشعب الغيور على أرضه وعلى سيادته ومدى حرص الأسرة المصرية على كرامة بلدها، فقد عشنا فى الساعات الماضية حالة من النقاش داخل كل البيوت المصرية عن أصل الحق فى هاتين الجزيرتين والمشاعر كانت فعلا ملتهبة بالوطنية.
ما حدث من ترسيم الحدود بعد دراسته كان حقا وله جوانب إيجابية، لكن طريقة تعامل الدولة مع المجتمع لم يكن معمول لها حساب أو تقدير موقف، وأيضا طريقة المعالجة بعد الحدث لم تكن صحيحة ولا كافية.
أدعو الإدارة المصرية إلى الحديث مع الناس ليس عن طريق الرئيس فى كل القضايا، ولكن عن طريق متخصصين معتمدين من الدولة تكون هذه مهمتهم، ولا أطلب أن أسمع بيانا فاترا أو سفيرا متحدثا لا تفهم من بين كلماته لا خيرا ولا شرا.
لكن على من يتحدث للناس أن تكون له سمات معينة متمثلة فى إلمامه بكل المعلومات عن القضية التى يتحدث بها، وأيضا تكون لديه قدرة على الإقناع.
ما أعنيه من كل هذا هو ضرورة أن يكون هناك تسويق سياسى للقرارات الكبيرة التى تتخذ وتمهيد المجتمع عن طريق طرح كل المعطيات أمامه وعدم مفاجأته بالقرارات.
التجاهل وترك الأمور تأخذ وقتها وتمر لن يجدى، وسيكون له تراكمات قضية تلو الأخرى، وتذكروا دائما أن هذا الشعب يسكت كثيرا وعندما يتكلم يرغم الجميع على سماع صوته، فقد عودنا هذا الشعب أنه يقود ولا يقاد.