نعم نال حقا احترام ألد أعدائه قبل أصدقائه وتلاميذه الذين درسوا فنون الحرب على يديه، فبعد انتهاء إحدى جلسات مفاوضات فض الاشتباك الأول (الكيلو 101) التي أعقبت عبور القوات المصرية لقناة السويس في حرب أكتوبر 1973، خرج الفريق عبد الغني الجمسي - رئيس وفد المفاوضات المصري - والذي كان رئيسا لأركان الجيش من خيمته للتفاوض دون أن يسلم على أي من أعضاء وفد المفاوضات الإسرائيلي أو تصدر عنه كلمة واحدة.
كانت تلك هى عادته طوال زمن المفاوضات، فأسرع وراءه قائد الوفد الإسرائيلي الجنرال "عيزرا وايزمان" الذي أصبح رئيسا لإسرائيل فيما بعد، وقال له : "سيادة الجنرال، لقد بحثنا عن صورة لك وأنت تضحك فلم نجد، ألا تضحك أبدا؟!"، فنظر إليه القائد المصري الجسور شذرا ثم تركه ومضى .. وبعدها كتب "وايزمان" في مذكراته عن المشير الجمسي: "لقد هزني كرجل حكيم للغاية، إنه يمثل صورة تختلف عن تلك التي توجد في ملفاتنا، ولقد أخبرته بذلك".
بساطة الفلاح في فطنة وذكاء، وعظمة الجنرال المهيب المنتصر، هما وجهان لعملة واحدة لم يعرف المشير "محمد عبد الغني الجمسي" غيرهما طوال حياته التي امتدت لـ 82 عاما قضاها متفانيا من أجل تراب هذا الوطن، عاصر خلالها حروب مصر جميعها في العصر الحديث، والتي قال عنها : إذا كانت الحروب التي دارت بين إسرائيل والعرب تجذب الناس بأحداثها ونتائجها المباشرة، إلا إني كنت أشعر دائما أننا نحن العرب، لا نتعمق في دراسة جذور الصراع العربي الإسرائيلي، ولا نعطي الأهمية الواجبة لمعرفة ما قامت به الصهيونية العالمية، والدول الكبرى من تخطيط، وما نفذته من أعمال في جميع المجالات حتى أقامت دولة إسرائيل على جزء من أرض فلسطين.
وأضاف : كان واجبا على قواتنا المسلحة أن تدخل حرب أكتوبر 1973 فى ظروف عسكرية صعبة ومعقدة لهدم نظرية الأمن الإسرائيلى التى وضعتها إسرائيل كستار لتحقيق أهدافها التوسّعية وفرض الأمر الواقع على العرب، وكنا سندخل الحرب، بينما العدو له التفوق العسكرى، والوضع الطبيعى أن يكون المهاجم متفوقا على المدافع، لذلك كان من الضرورى إهدار التفوق العسكرى فى المرحلة الافتتاحية للحرب، وهى مرحلة الهجوم مع اقتحام قناة السويس، ومن ثم غيرت تلك الحرب وجه التاريخ العسكري في القرن العشرين، عبر تلك الأساطير التي سجلت شجاعة وعقيدة المقاتل المصري في مواجهة أعدائه متحديا بشعار "الله أكبر"، والذي زلزل كيان العدو الإسرائيلي آنذاك.
تلك هى الكلمات التي سطرها "الجمسى"، رئيس هيئة العمليات المسلحة أثناء حرب أكتوبر، ضمن مذكراته تلخص فكرة التخطيط لحرب أكتوبر، ولهذا اتفق معظم العسكريين والمؤرخين أن "الجمسى" كان العقل المخطط والمدبر لهذا الانتصار العظيم، فرأى كثيرون أن الرئيس الراحل السادات كان يؤمن بما يطرحه "الجمسى" ويثق فى قدرته على التخطيط والقيادة فى أى معركة، وكذلك إعداد الدولة للحرب التى هى إحدى المهام الرئيسية لهيئة عمليات القوات المسلحة التي كان يرأسها.
ومع نجاحه المبهر في التخطيط لهذ الحرب التي كللت بالنصر واسترداد الكرامة الوطنية، كان - رحمه الله - يدعو دوما إلى الاعتراف بنظرية المؤامرة، والإيمان بها، من أجل المستقبل، وقد ظلت تلك النظرية راسخة في رأسه حتى الموت ، فإسرائيل من وجهة نظره الشخصية لم تكن لتقوم وحدها على أرض فلسطين، لولا مساعدات الدول الكبرى التي سهلت الهجرات إلى فلسطين، وساهمت في دفع الرشى، وإجبار الفلسطينيين على ترك أراضيهم، وطردهم منها شر طردة، وتغيير الأسماء، وتهويد الخرائط، ومسح ومحو التاريخ العربي الفلسطيني.
لم يكن الجمسي سوى فلاح طيب أو جنرال عنيد عرفه عدوه بالنحيف المخيف؛ بحسب كتاب "أوراق من حياة المشير الجمسي"، للباحثة والمؤرخة في الشئون العسكرية " أميرة فكري"، التي تقول في بداية كتابها : "إنه في نهاية عام 1921 ولد الطفل محمد عبد الغني الجمسي لأسرة ريفية كبيرة العدد فقيرة الحال يعمل عائلها في زراعة الأرض في قرية البتانون بمحافظة المنوفية، ولفقر الأسرة المدقع كان الوحيد من بين أبنائها الذي حصل تعليما نظاميا قبل أن تعرف مصر مجانية التعليم".
ولقد لعب القدر دوره في حياة الجمسي بعد أن أكمل تعليمه الثانوي، حينما سعت حكومة مصطفى النحاس باشا الوفدية لاحتواء مشاعر الوطنية المتأججة التي اجتاحت الشعب المصري في هذه الفترة؛ ففتحت - لأول مرة - أبواب الكليات العسكرية لأبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة التي كانت محرومة منها، فالتحق الجمسي ولم يكن قد أكمل السابعة عشرة بالكلية الحربية مع عدد من أبناء جيله وطبقته الاجتماعية الذين اختارهم القدر لتغيير تاريخ مصر؛ حيث كان من جيله جمال عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر، وصلاح وجمال سالم، وخالد محيي الدين... وغيرهم من الضباط الأحرار.
تخرج الجمسى من الكلية الحربية عام 1939 في سلاح المدرعات، ومع اشتعال الحرب العالمية الثانية ألقت به الأقدار في صحراء مصر الغربية؛ حيث دارت أعنف معارك المدرعات بين قوات الحلفاء بقيادة "مونتجمري" والمحور بقيادة "روميل"، وكانت تجربة مهمة ودرسا مفيدا استوعبه الملازم الشاب واختزنه لأكثر من ثلاثين عاما حين أتيح له الاستفادة منه في حرب أكتوبر عام 1973.
يستعرض كتاب "أميرة فكري" أبرز الجوانب الشخصية والمهنية في حياة واحد من عظماء العسكرية المصرية، ولعل الذي ميز تلك الأوراق من حياته، أن الباحثة ألقت ظلالا كثيفة على شخية "الجمسي" الذي تلقى في بداية حياته عددا من الدورات التدريبية العسكرية في كثير من دول العالم، ثم عمل ضابطا بالمخابرات الحربية، ويبدو أن "الصراع العربي الإسرائيلي" هو الخط الأساسي والمجال الذي برع فيه الجمسي، وقضى فيه عمره كله، حيث ارتبطت كل مرحلة فيه بجولة من جولات هذا الصراع منذ حرب 1948 وحتى انتصار 1973، وحتى بعد اعتزاله للحياة العسكرية ظل مراقبا ومحللا للوضع المشتعل، مؤمنا بأن أكتوبر ليست نهاية الحروب، وأن حربا أخرى قادمة لا محالة؛ لأن مواجهة مصيرية لا بد أن تقع، وأن الانتفاضة الفلسطينية هى السلاح الأفضل والأنجع حاليا لضرب العدو الصهيوني، ولا بد من تدعيمها بكل ما نملك.
الثابت في حياة هذا القائد العظيم على عهدة الباحثة "أميرة فكري" وغيرها من الباحثين في حياة "الجمسي" أنه لم يضيع يوما واحدا، فقد كان جل اهتمامه التفكير في كيفية استرداد كرامة الجندي المصري بعد نكسة 67 ؛ فبدأ مبكرا الاستعداد لساعة الحسم مع العدو الصهيوني، فكان لا يتوقف عن رصده وتحليله وجمع كل المعلومات عنه، وعندما تم تكليفه مع قادة آخرين بإعداد خطة المعركة أخذ يستعين بكل مخزون معرفته، وبدأ تدوين ملاحظاته عن تحركات الجيش الصهيوني، وتوقيتات الحرب المقترحة، وكيفية تحقيق المفاجأة.
ومن أجل الحفاظ على السرية التامة دون كل هذه المعلومات السرية في الأمر الذي لا يمكن لأحد أن يتصوره؛ فقد كتب "الجمسي" كل تلك المعلومات بتفاصيلها الدقيقة في "كشكول دراسي" خاص بابنة العقيد صلاح فهمي الصغرى؛ والذي كلفه الجمسي بإعداد دراسة حول الموقف العسكري، وفكرة العملية الهجومية المخططة، والمواصفات الفنية والطبيعية لقناة السويس من حيث المد والجزر وسرعة التيار واتجاهه، وساعات الظلام وضوء القمر، والأحوال الجوية، وحالة البحرين الأبيض والأحمر، وعوامل أخرى، كانت كل هذه الظواهر الطبيعية مطلوبا معرفتها لتحديد تأثيرها على وسائل العبور بالقوارب وإنشاء المعديات والكباري، وظل محتفظا به في مكان آمن، فلم يطلع عليه أو يقرؤه أحد إلا الرئيس المصري "أنور السادات" والسوري "حافظ الأسد" خلال اجتماعهما لاتخاذ قرار الحرب.
اختار القائد المصري المحنك "الجمسي" توقيت الحرب بعناية بالغة: حيث كتب في كشكوله أنها تبدأ في الساعة الثانية ظهرا من يوم السادس من أكتوبر 1973 الموافق العاشر من رمضان 1393، وبالفعل كان هذا أنسب توقيت ممكن للحرب؛ نظرا لوجود 8 أعياد يهودية وموافقته لشهر رمضان، ولأن التنسيق بين الجيشين المصري والسوري كان من أصعب مهام الحرب، ويحتاج إلى قائد من طراز فريد؛ وبالفعل لم يكن هناك أفضل من "الجمسي" الذي قاد غرفة العمليات طوال أيام الحرب.
صحيح أن "المشير الجمسي" خرج من الحياة العسكرية عام 1982، لكنه ظل محتفظا بنفس التقاليد الصارمة من الالتزام والانضباط، فضلا عن أنه آثر الصمت وتوراى بعيدا عن الأضواء، وحين بدأت موجة الكتابة والكشف عن أسرار حرب أكتوبر تنتشر في مختلف أنحاء العالم، كانت المعلومات تتكشف تدريجيا عن دور هذا القائد العظيم في الحرب، وتعددت معها الألقاب التي أطلقت عليه؛ فسمي "ثعلب الصحراء المصري"؛ نظرا لبراعته في قيادة معارك الصحراء، أما أحب الألقاب إلى قلبه فكان لقب "مهندس حرب أكتوبر"؛ نظرا لاعتزازه بالحدث وفخره به، إلا أن أغرب الألقاب التي أُطلقت على المشير الجمسي؛ فكان ذلك الذي أطلقته عليه "جولدا مائير" رئيسة وزراء إسرائيل إبان حرب أكتوبر، حين وصفته بـ"الجنرال النحيف المخيف".
ومن المفارقات المذهلة في حياة هذا الرجل - كما جاء في كتاب الباحثة "أميرة فكري" وأيضا في شهادات معاصريه - أن اختاره السادات ليتولى مسئولية التفاوض مع الإسرائيليين فيما عرف بمفاوضات الكيلو 101، وكقائد تجري دماء العسكرية في دمه نفذ "الجمسي" أوامر القيادة التي يختلف معها، وبدا الرجل مفاوضا صلبا مثلما كان عسكريا صلبا، حتى جاءت أصعب لحظات عاشها الفريق في حياته كلها، لحظات دفعته -لأول مرة في حياته العسكرية - لأن يبكي! كان ذلك في يناير 1974 عندما جلس أمامه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "هنري كيسنجر" ليخبره بموافقة الرئيس "السادات" على انسحاب أكثر من 1000 دبابة و70 ألف جندي مصري من الضفة الشرقية لقناة السويس!!.
رفض "الجمسي" ذلك بشدة، وسارع بالاتصال بالسادات الذي ما كان منه إلا أن أكد موافقته، ليعود الرجل إلى مائدة التفاوض يقاوم الدموع، ثم لم يتمالك نفسه فأدار وجهه ليداري دمعة انطلقت منه حارقة؛ حزنا على نصر عسكري وأرواح آلاف الرجال تضيعها السياسة على موائد المفاوضات، وكانت مفاجأة لـ "هنري كيسنجر" أن يرى دموع الجنرال الذي كثيرا ما أسرّ له القادة الإسرائيليون بأنهم يخشونه أكثر مما يخشون غيره من القادة العسكريين العرب، ولهذا يستحق أن يخلد بفيلم أو مسلسل يحكي قصة حياته المفعمة بالبطولات الحقيقية النابعة من تراب هذا الوطن.
رحل المشير الجمسي في صمت بعد معاناة مع المرض؛ العدو الوحيد الذي لم يستطع قهره، فرفع له الرايات البيضاء؛ استجابة لنداء القدر، وصعدت روحه إلى ربه في السابع من يونية 2003 عن عمر يناهز 82 عاما، عاش خلالها حياة حافلة بالانتصارات، وهنا أتذكر كلماته الأخيرة: "انتصار أكتوبر هو أهم وسام على صدري، وليتني أحيا لأقاتل في المعركة القادمة"! .. رحم الله "الجمسي"، فمثله لاينسي، وقد دخل التاريخ من أوسع الأبواب، قائدا عسكريا فذا عد من كبار الشخصيات العسكرية المؤثرة في التاريخ المصري والعربي الحديث.