إعادة قراءة كتاب أفكار ومواقف للمفكر الكبير زكى نجيب محمود، خاصة الفصل الذى حمل عنوان من وحى الحياة الجارية جعلنى على يقين بأن لا شىء يتغير سوى للأسوأ، فمنذ منتصف السبعينيات أدرك زكى نجيب محمود أننا ذاهبون إلى التطرف لا محالة، ففى مقال بعنوان «الشيطان الأخرس» يعلق على ثلاثة أشياء نشرت فى عدد واحد من جريدة الأهرام التى كانت قلعة التنوير ورأى فيها المصيبة التى حدثت واستمرت وما زالت تنجب كوارث وجهالة وإرهابا، فقد وصف حاله عند قراءة هذه الأخبار بقوله: «أعانى من قلق يستبد بعقلى وقلبى» فلا يترك لى مهربا ولا مخرجا، أدرك المفكر الكبير بالموجة التى تطغى على الحياة فى مصر أننا مقبلون على إرهاب فكرى مفتوح على مصراعيه لأصحاب جانب واحد من جوانب القول مغلق تماما أمام الجوانب الأخرى، أدرك أننا نعود إلى السلف فى رسم الطريق الذى يراد لنا أن نسلكه فى أكثر جوانب حياتنا حيوية وأهمية.
يقول: فى عدد واحد من جريدة الأهرام تناثرت مجموعة من الآراء لو جمع بعضها إلى بعض ارتسمت أمامنا صورة لما يراد لنا فى حياتنا الفكرية وحياتنا العملية على السواء، ففى موضع من الصحيفة نشر أن النية متجهة إلى إدخال عقوبة قطع الأيدى والأرجل وتحريم شرب الخمر أو المشاركة فى صنعها أو بيعها وتطبيق حد الإسلام، وهو الجلد على المسلمين، وفى موضع آخر من الصحيفة نشرت كلمة لأستاذ فى إحدى كليات الأزهر يرد بها على شيخ الأزهر، فيما يخص غناء المرأة المسلمة أهو حلال أم حرام، واستهل الأستاذ كلمته بهذه العبارة «كانت المرأة ومازالت سهما من سهام إبليس..» ولابد أن تكون لهذا الأستاذ أم وربما كانت له كذلك بنات وأخوات، فبماذا يرد ويجيب لو سألته. إذا كانت المرأة سهما أراد إبليس أن يرمى به الرجل ليضلله. أفليس الرجل سهما من سهام أبليس أراد أن يرمى به المرأة ليضللها؟ وإذا كان كذلك أفيكون البشر جميعا على هذه الصورة الشيطانية الرهيبة؟ ألا نتقى الله فى كرامة الإنسان إذا لم يكن بنا رغبة فى أن نتقيه فى القيم الحضارية كلها.
اما الخبر الثالث فكان عبارة عن تقرير صحفى يصور به كاتبه ما حدث فى مؤتمر الاقتصاد الإسلامى الذى انعقد فى مكة وأن أحد أساتذة الاقتصاد قال للمؤتمرين إن إقامة اقتصاد إسلامى لا تكفيه الدراية بالفقه الدينى وحده، بل لابد كذلك من الإلمام بعلم الاقتصاد فانفعل أستاذ من أئمة الدين وهو مصرى، قائلا: إن رجال الشريعة قادرون على أن يقولوا كلمتهم فى كل شىء، ولأن زكى نجيب محمود منحه الله من قوة البصيرة فائضا من نور وعلم، فقال لا يكفى أن نقول أن السيل قد أغرق الربى، لأنه بذلك يكون قد أغرق الروابى مع الروابى، قمم الجبال العالية أيضا، ولو كان الأمر كما قال القائل لوجب أن نغلق الجامعات ومراكز البحث وألا نبقى إلا على كلية الشريعة لأنها تعلمنا كل شىء.
كان زكى نجيب على إدراك أننا سنقف وراء خط التعثر، وكأن التقدم رجسا شيطانيا وكأن قدرنا الابتلاء بالجهلاء والصائتين والظواهر الصوتية الحنجورية، فى مقابل صامتين منتجين لا يرتفع لهم صوت بينما الصائتون يملؤون الدنيا صياحا دون أن يضيفوا إلى حصيلة الإنتاج الحقيقى مثقال ذرة. ومن الناس بيننا من يعيشون على مثل هذه الفجوة الواسعة بين صوتهم المسموع وإنتاجهم النافع.
ويستشهد زكى نجيب محمود بما يقوله علماء الطبيعة النووية بأن الكهارب التى تدور حول نواة الذرة قد لا تثبت فى مسارها على فلك واحد، بل ربما قفزت من فلك لها إلى فلك دون أن تدرك الأبصار قفزتها أو شىء كهذا للخفة السريعة والبراعة البارعة يتسم به الصاعدون من أصحاب الصراخ إلاجوف وأن هذه القدرة على التشكيل الحربائى السريع عند هؤلاء هى التى تضمن للحرباء طول البقاء ودوام الصعود. وكما الجهلاء فى ازدياد فالصائتون الكاذبون فى ازدياد ووهج، وبينها وطن يحتفى للأسف بهم.