يبدو أن مستقبل حلف الناتو أصبح على المحك فى المرحلة الراهنة، خاصة بعد التصريحات الأخيرة التى أدلى بها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، يوم الخميس الماضى، مؤكدا أن التحالف التاريخى "مات إكلنيكيا"، وهو التصريح الذى ربما يمثل انعكاسا صريحا لحالة الشقاق غير المسبوق التى يشهدها المعسكر الغربى فى المرحلة الراهنة، والتى ظهرت بجلاء فى العديد من القضايا الدولية، بدءا من الأزمة الإيرانية، مرورا بالانسحاب الأمريكى من سوريا، وانتهاء بالعدوان التركى على منطقة الشمال السورى.
حالة الانقسام الراهن داخل أروقة حلف الناتو بدأت بما يمكننا تسميته بـ"التمرد" التركى على تقاليد المعسكر الغربى، وعبر الارتماء فى أحضان موسكو، من خلال الانضمام لمباحثات "أستانا" تارة، والإقدام على شراء منظومة الصواريخ الروسية "إس 400" تارة أخرى، بالإضافة إلى قيام أنقرة بدعم الجماعات الإرهابية المناوئة لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها فى منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسها تنظيم داعش الإرهابى، سواء فى سوريا أو العراق، وهو ما بدا واضحا فى العدوان الأخير على شمال سوريا لدحض الأكراد الذين لعبوا الدور الرئيسى فى الحرب على التنظيم المتطرف بدعم من الولايات المتحدة.
ولعل الموقف الأمريكى الحاسم من أنقرة، سواء فيما يتعلق بالعدوان الأخير على شمال سوريا، أو حتى قبل ذلك عندما فرضت إدارة ترامب عقوبات على نظام أردوغان إثر تعنته فى الإفراج عن قس أمريكى معتقل فى السجون التركية، يمثل انعكاسا صريحا لإدراك الولايات المتحدة لخطورة الدور الذى تلعبه تركيا فى الآونة الأخيرة، حتى أنها اتجهت مباشرة إلى فرض العقوبات عليها، فى خطوة غير مسبوقة تجاه حليف بالناتو، كما أنها لوحت كذلك فى مناسبات سابقة لاحتمالات طردها من الحلف.
وهنا تولد انقسام آخر داخل الحلف من رحم الانقسام الأول، كانت فيه أنقرة العامل المشترك، ففى الوقت الذى ترى فيه بعض الدول الأعضاء أن تركيا أصبحت عضوا يستحق البتر، حفاظا على التحالف التاريخى، تبقى بعض القوى التقليدية، وعلى رأسها ألمانيا، متمسكة بأنقرة، باعتبارها حليف تاريخى، وهو ما يمثل امتدادا صريحا لحالة عدم الاستقرار داخل الحلف.
الانقسامات التى خلقتها تركيا لم تقتصر على مستوى المواقف السياسية، أو الخلاف بين أعضاء الناتو تجاه أنقرة، وإنما امتدت إلى داخل الدول الأعضاء، ففى الوقت الذى تمسكت فيه الحكومة الألمانية، برئاسة المستشارة أنجيلا ميركل، ببقاء العضو التركى المارق، يرى أغلبية الألمان ضرورة بتره من الحلف، خاصة بعد العدوان على شمال سوريا، بحسب استطلاع أجرته مؤسسة "يوجوف"، حيث أيد 58% من المشاركين طرد أنقرة من عضوية التحالف، مقابل 18% فقط قبلوا باستمرارها.
يبدو أن خطوة طرد أنقرة من الناتو ستكتب كلمة النهاية لطموحات أردوغان، بعدما خسر رهانه فى الشرق الأوسط، على ما يسمى بـ"ثورات الربيع العربى"، خاصة وأن وجوده بالتحالف الغربى كان بمثابة ورقته الوحيدة لتحقيق حلم الانضمام للاتحاد الأوروبى منذ بداية حقبته، وهو الأمر الذى لم يتحقق، فى ظل إدراك التكتل الأوروبى لخطورة الدور الذى تلعبه أنقرة، ليس فقط على المستوى الدولى، ولكن أيضا للمبادئ التى أرساها الاتحاد منذ تأسيسه، والتى قامت فى الأساس على الحرية والديمقراطية واحترام حقوق المعارضة السياسية، بالإضافة إلى سياساتها المشبوهة الداعمة للإرهاب، ليصبح التساؤل.. هل يستلهم الناتو الدرس الأوروبى تحاه تركيا؟.