عندما سقط سور برلين فى نوفمبر 1989 كان فلاديمير بوتين، الذى درس القانون فى جامعة ولاية لينينجراد نائبا لرئيس جهاز الأمن الروسى كى جى بى فى ألمانيا الشرقية، وواجه حصار المتظاهرين ضد الاتحاد السوفيتى يومها وجد بوتين نفسه وحيدا بينما رئيسه غير موجود واتصل بقيادته فى موسكو لكنه لم يتلق ردا.
كان على بوتين أن يواجه الموقف وحده، يومها أشعل فرنا تخلص من المستندات والوثائق المهمة، وخرج ليواجه المهاجمين، وأن من يحاول اقتحامه سوف يواجه بالرصاص. تفكك الاتحاد السوفيتى، وعاصر بوتين فترة التفكك مع ميخائيل جورباتشوف، وبوريس يلتسين. الذى عاشت فيه روسيا فترة من الفوضى والتفكك والفساد وخضعت لسيطرة المافيا.
بعد 30 عاما من سقوط سور برلين وتفكك الاتحاد السوفيتى، أصبحت روسيا صاحبة دور فاعل فى النفوذ والقوة، بجهد متواصل من فلاديمير بوتين، الذى انتشل روسيا من الضياع، ووضعها على طريق المنافسة والنفوذ، خلال 19 عاما تولى فيها رأس السلطة بالكرملين.
بعد 16 عامًا، فى المخابرات السوفيتية استقال بوتين عام 1991 لدخول السياسة فى سانت بطرسبرج. انتقل إلى موسكو فى عام 1996 وانضم إلى إدارة الرئيس بوريس يلتسن، وشغل منصب مدير جهاز الأمن الفيدرالى الروسى ،(FSB)الوكالة التى حلت محل الـ KGB، ثم رئيسا للوزراء. وعندما استقال يلتسين فى 31 ديسمبر 1999 أصبح بوتين قائما بأعمال الرئيس. وانتخب فى 26 مارس 2000 رئيسا لروسيا الاتحادية، وأعيد انتخابه للرئاسة فى 14 مارس 2004 ثم تولى رئاسة الوزراء من 8 مايو 2008 أثناء رئاسة ديمترى ميدفيديف.
عندما تولى بوتين الرئاسة لأول مرة كانت أول كلمات قالها: «نعيش فى عالم تنافسى ولسنا بين قادته»، فقد كان يدرك حجم الضعف الذى تعيشه روسيا، بتأثير سنوات من الجهد الأمريكى والغربى لمحاصرتها، ومع هذا وخلال فترة رئاسته الأولى، نجح فى انتشال الاقتصاد الروسى من الحضيض والضياع، وحقق الاقتصاد نسبة نمو مرتفعة لمدة ثمانى سنوات متتالية، وزاد الناتج المحلى، ثم خاض الانتخابات الرئاسية مارس 2012 وفاز بنسبة 64 ٪ من الأصوات.
وعلى الرغم من أن بوتين انتشل الاقتصاد والدولة الروسية من التفكك فقد ظلت روسيا خارج التأثير الدولى فيما يتعلق بالنفوذ أو التأثير. بل إن الولايات المتحدة والغرب امتلكوا تأثيرا فى أوكرانيا على بعد 500 كيلومتر من موسكو، واحتاح بوتين إلى اجتياح شبه جزيرة القرم، شرقى أوكرانيا حيث تقوم قاعدة بحرية روسية. وقال: «بصفتى رئيس روسيا مهمتى حماية مصالح سكانها».
عقب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم فرض الغرب على موسكو عقوبات اقتصادية وتسابق الزعماء الغربيون لانتقاد الرئيس بوتين، رهانا على أن العقوبات على الكرملين ستغير سلوك روسيا. وبلغ الأمر بالرئيس الأمريكى آنذاك باراك أوباما الاستخفاف بروسيا ووصفها بأنها مجرد «قوة إقليمية». وفى اجتماع قمة العشرين 2012 تعامل باراك أوباما بإهمال وعدم اهتمام مع بوتين، وقال مسؤولو البيت الأبيض: من هو بوتين ليقول لنا ماذا نفعل؟
وخلال السنوات الماضية صدرت عدة وثائقيات منحازة ضد بوتين تهاجمه وتنتقد سياساته، من باب حقوق الإنسان والإدارة السياسية، وظل التصور يقوم على التقليل من شأن وتأثير روسيا وبوتين.
لكن خلال خمس سنوات انشغل بوتين بتقوية الاقتصاد الداخلى وطور من الصناعات العسكرية وأنظمة الصواريخ، كما تدخل فى القضايا السياسية بالشرق الأوسط. واليوم أصبحت روسيا تحظى بنفوذ عالمى، وبجانب اتهامات أمريكية لموسكو بالتدخل فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة (2016) لصالح دونالد ترامب، هناك قلق غربى من سعى موسكو إلى توسيع نفوذها فى أفريقيا وأمريكا اللاتينية وتستغل الانقسامات فى أوروبا لمصلحتها، لدرجة أن تقارير الإعلام الغربى تعتبر التحول فى النفوذ الروسى فى الشرق الأوسط صارخا. حسب « بى بى سى»، التى تقول إنه «بعد أربع سنوات من إطلاق موسكو لعمليتها العسكرية فى سوريا، أصبحت تستحوذ على الدور القيادى الذى كانت تقوم به واشنطن فى المنطقة». وحسب صحيفة «موسكوفسكى كومسوموليتس» الروسية الشعبية فإن «الوضع الحالى فى الشرق الأوسط لم يكن متصورا فى زمن هنرى كيسنجر ونظريته حول «لعبة الشطرنج الجيوسياسية العالمية». فقد العملاق الأمريكى طريقه فى وضح النهار، بينما تمسك الدبلوماسية الروسية بخيوط اللعبة، وتلعب موسكو الآن دور الوسيط الدولى وصاحب النفوذ، ولن تستطيع أى من القوى الإقليمية أن تتجاهل الدور الروسي».
وتبدو رحلة بوتين من وقفته وحيدا بعد سقوط سور برلين قبل 30 عاما، على كونه أحد اللاعبين الكبار فى لعبة الشطرنج السياسية بالشرق الأوسط وأفريقيا ومناطق نفوذ ظلت حكرا على الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة.