ذكرى ميلاد النبى، صلى الله عليه وسلم، ليست مجرد حدث نكتفى فيه بالاحتفال والاحتفاء وعقد المناسبات وإلقاء الخطب والأشعار، ولا حتى هى ذكرى خاصة بالمسلمين وحدهم، فالنبى، صلى الله عليه وسلم، كان رحمة للعالمين أى لجميع العوالم العلوية والأرضية، ومنها عالم الإنسان مسلما كان أو غير مسلم أقر بنبوته، صلى الله عليه وسلم، أو جحدها، فلقد ولد الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم، فى حقبة شديدة الخطورة والأهمية من تاريخ البشرية، حيث وصلت أمم العالم وليس العرب وحدهم إلى درجة غير مسبوقة من الانحطاط الدينى والأخلاقى.
ففى جانب الدين عمت الوثنية وتعددت الآلهة التى لا تنفع ولا تضر وأصبح الدين نفسه تجارة يحتكرها بعضهم بغية جمع المال، وأما على الجانب الأخلاقى فحدث ولا حرج، حيث أصبحت قيمة الإنسان الذاتية الذى كرمه الله ورفع قدره تكاد تكون منعدمة تماما إلا بما يملك من مالأو قوة أو سلطة، وأصبحت حالة الصراع والتطاحن والحرب هى الحالة السائدة بين الممالك العظيمة.
أما الأمم الضعيفة كالعرب فكانت تحمى نفسها بالانضواء والتحالف مع إحدى القوتين الباطشتين الفرس أو الروم أو بالانكماش والانزواء والتهميش الاختيارى والعزلة عن العالم وما يدور فيه، وعم الاستعباد العالم كله وقهر الإنسان أخاه الإنسان وعذبه، وأصبح الإنسان أهم سلعة تباع وتشترى بعد العقائد والأديان، وانتشرت الأخلاق الفاسدة وسادت الوحشية، وانمحت حقوق الإنسان من ذاكرة الشعوب حتى صارت الأنوثة التى شرفها الله تعالى عارا يتوارى منه بدفن البنات أحياء وقت ولادتهن دون ذنب ولا جريرة.
لا نبالغ إذ نقول, إن العالم بأسره قد بلغ درجة من الانحطاط لا نظير لها فى جميع أطواره قبيل مبعث النبى، صلى الله عليه وسلم، ولما بعث النبى، صلى الله عليه وسلم، كان مبعثه الشريف يمثل ثورة على هذا الظلام المتراكم فانبعث فى ضمير الإنسانية شعاع أمل ونور يردها إلى جادة الصواب والرشاد، فجاءت تعاليمه الشريفة موجهة لتصحيح مسار الإنسانية نحو الرحمة والعدل والمساواة ومكارم الأخلاق وترسى مفاهيم جديدة لحقوق الإنسان هذه المفاهيم لها الفضل كل الفضل فى كل ما تعيشه البشرية الآن من تطور كبير فى مجال حقوق الإنسان، وهذا أمر لم يكن له أى أثر قبل بعثته الشريفة.
وفى هذا الصدد استوقفتنى كلمة فى غاية الأهمية للرئيس عبد الفتاح السيسى ذكرها فى كلمته أثناء احتفال مشيخة الأزهر الشريف بالمولد النبوى، حيث قال إن الكلمات والأحاديث النبوية الشريفة تمثل أطرا عامة وقواعدكلية واستراتيجيات مستقبلية لما يجب أن تسير عليه البشرية جمعاء فى مجال التعايش وحقوق الإنسان وإنه من الواجب علينا أن نضع هذه الاستراتيجيات موضع الدراسة والتنفيذ، وعلينا أن نجتهد لوضع التفاصيل التى تناسب عصرنا لكى نحيا سنته الشريفة، صلى الله عليه وسلم، ونفعلها فى الواقع برؤية تجديدية معاصرة تحافظ على الثوابت وتراعى المتغيرات والمقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية الغراء، وهذ الرؤية التجديدية العامة التى أشار إليها الرئيس عبدالفتاح السيسى التى يكررها ويؤكد عليها فى كل مناسبة تجمعه بأصحاب الفضيلة علماء الأزهر الشريف هى المخرج الوحيد للخروج بالأمة من أزمتها الراهنة، حيث انتشرت أفكار الجماعات المتطرفة وممارساتهم الوحشية باسم الإسلام وباسم رسول الإنسانية، صلى الله عليه وسلم، وكل ما نحتاج إليه هو أن نبعث من جديد تعاليم الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأخلاقه السمحة فى معاملة المسلم وغير المسلم حتى يسود العالم حالة الأمن والاستقرار والبعد عن القلاقل والفتن باسم الدين: إننا ونحن نحتفل بمولد الحبيب صلى الله عليه وسلم، بحاجة ماسة أن نبرز سيرته وأخلاقه السامية الشريفة للناس، وأن نعمل على محو الصورة المشوهة التى روجت لها الجماعات المتطرفة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، التى تسببت فى تشويه صورة الإسلام وجر كثير من الشباب المغيب إلى العنف والقتل وسفك الدماء، وإن تأكيد فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسى على أن كل ما نبذله من جهود من أجل تجديد الخطاب الدينى ما هو إلا بعث وإحياء لأخلاق الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، وسجاياه الشريفة، لذلك لابد من التأكيد أن التجديد الصحيح يحافظ على الثوابت ويحرص عليها، ويؤكد أهميتها وضرورتها فلا يوجد تجديد يهدر الثوابت أو يقلل من أهميتها، والرئيس عبد الفتاج السيسى يكرر كثيرا، ويؤكد أهمية قضية الاقتداء برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى الجانب الخلقى، وأن نتخذ من أخلاقه الشريفة وأقواله المطهرة منهاجا ونبراسا للحياة والتعامل والتعايش ونشر الخير بين الناس، كم أتمنى أن تجعل رؤية الرئيس السيسى نقطة انطلاق لمزيد من المشروعات الأخلاقية التجديدية التى تعمل على تصحيح المفاهيم وتفكيك مقالات جماعات التطرف والإرهاب برؤية جديدة، وأن تمثل هذه الرؤية منطلقا للبعث والإحياء لما اندثر فى قلوبنا وحياتنا من مكارم وأخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهذا هو التجديد الذى نريد.