هناك مرض يُسمى توهم المرض واسمه العلمى (hypochondriasis)، حيث يتوهم فيه الشخص المرض ويخاف من الإصابة به، فيحدث له شىء يُسمى بالمشاركة فى الأعراض الهيستيرية، وهذا ما يفسر ما حدث فى واقعة تسمم تلاميذ 7 قرى بمدينة الفشن جنوب بنى سويف، بسبب تناول وجبات التغذية المدرسية، الحادثة التى تدخلت فيها العناية الإلهية، الأيام الماضية، وخاصة فى ظل حرب الشائعات على السوشيال ميديا.
القصة بدأت، بشكوى عدد قليل من تلاميذ مدرسة الجفادون، قبل الساعة الحادية عشر صباحا، يشتكون من "مغص" بعد تناول وجبة التغذية، لتلتقط صفحات التواصل الاجتماعى صور التلاميذ، مؤكدين دون تحقق بأن الوجبات فاسدة، وأن كافة تلاميذ المدرسة أصيبوا بتسمم حاد، ليتجمع أولياء الأمور، والكل يبحث عن ابنه فى موقف غريب وهوجة وعشوائية، والأطفال مندهشون وفى حالة ذهول مما يحدث، وهنا بدأت إدارة المدرسة بإبلاغ الإدارة ومجلس القرية، ليتحرك الجميع لإنقاذ التلاميذ، ونقلهم إلى الوحدة الصحية، ولكن مع زيادة الوهم والإيحاء المرضى زادت الأعداد، فما كان أمام مسئولى الوحدة المحلية إلا نقل التلاميذ أيا كانوا، مصابين أم لا! إلى الوحدات الصحية المجاورة للقرية بسيارات إسعاف وسيارات خاصة بالوحدة، إضافة إلى أن بعض أولياء الأمور لم يكتفوا بذلك بل قاموا بنقل أبنائهم "اللى بتوك توك واللى بتروسكل واللى بجرار زراعى".
وهنا زادت الإشاعات على الفيس بوك، وانتشرت صور التلاميذ، لتنتقل العدوى من مدرسة الجفادون إلى مدارس أخرى بالقرى المجاورة، وأصبحنا أمام كارثة حقيقية، أعداد غفيرة وهرج ومرج، وتفتح مستشفى الفشن المركزى أبوابها وتعلن الطوارىء وتستدعى كافة الكوادر البشرية من أطباء وعاملين وتمريض، ليصل الأمر إلى كبار المسئولين، فيأتى محافظ الإقليم مسرعا ووكيلا وزارة الصحة والتعليم، ثم تعقبهم وزيرة الصحة رفقة وفد كبير من الطب الوقائى، قادمين من القاهرة، ويشاركون فى إسعاف التلاميذ وتعليق المحاليل وإعطاء الأدوية بل جلب سيارات من تموين المديرية بالأدوية والمستلزمات، وإعطاء الأوامر بتحريز المخزن المورد وتحليل العينات ومياه الشرب.
إلا أن الغريب، الأعداد فى تزايد كبير والنهار قارب على الانتهاء، ليتسائل الجميع، إيه اللى بيحصل! رغم قدوم أكثر من مائة حالة ولا يوجد حالة واحدة تصنف بالخطرة، وكيف أكل التلاميذ الوجبة الساعة العاشرة صباحا، وها هى الساعة الخامسة مساءً وتوافد الحالات لم يقف؟ ولكن كان ليس أمام المسئولين والأطباء إلا استقبالهم وإعطاء المحاليل الطبية، حتى فاق العدد قدرة المستشفى المركزى فاضطروا لتحويل القادم إلى مستشفيات أخرى فى مركز ببا وحالات بالعشرات إلى مستشفى بنى سويف النموذجى، كل ذلك والمحافظ والوزيرة وسط المرضى، حتى انتهى اليوم وخرج كافة الحالات إلى المنازل سالمين، لدرجة أن الحكومة وفرت مواصلات لعودة الحالات إلى المنازل.
أما الجميل فى هذا الأمر، أن جهود الحكومة وتكاتف جهاتها "الأمنية والصحية والتعليمية والخدمية" وإخلاص رجالها هى من وقف بالمرصاد ضد مروجى الشائعات ومنعت كارثة حقيقية، وأنا هنا لا أتكلم عن كارثة تسمم الأطفال فقط، وإنما فى ظل عشوائية أولياء الأمور وخوفهم على أبنائهم والأعداد الكبيرة بكافة القرى، كان من الممكن حدوث حوادث مرورية تزهق فيها الأرواح، أو حدوث مشاجرات مع الموظفين أو الأطباء ينتج عنها فوضى تؤدى إلى كوارث صحية داخل المستشفيات، أو وفاة تلاميذ أبرياء بسبب هذا الوهم المرضى، أو اندساس متطرفين لاستغلال الحدث لصالح إحداث إرهاب فكرى أو دموى أو الإساءة لسمعة الدولة المصرية.
لتنتهى القصة بتأكيد الأطباء والحكومة أن ما حدث ما هو إلا إيحاء مرضى، وذلك بعد تحليل عينات من الوجبة المدرسية ومياه الشرب فى المدارس ومنازل التلاميذ المصابة، وقرار فرق الطب الوقائى التى انتشرت فى المدارس والقرى.
وأخيرا.. أن ما حدث فى بنى سويف لبه دروس وعظات، أولها، أن مصر تواجه خطرا يُسمى "حرب الشائعات" على السوشيال ميديا أكثر خطورة من حروب السلاح والذخيرة، وعلى الدولة أن تواجهه بكل قوة وعزم، ثانيها، أن ما فعلته الحكومة ورجالها لهو الأسلوب الحقيقى للرد على المحبطين واحتواء المواطن وإرضائه، وخاصة أن صفحات السوشيال امتلأت شكرا وعرفانا بمجهوداتهم الجبارة، ولهذا كل ما نتمناه أن يكون هذا التعامل هو المنهج الرئيسى فى الجهات الحكومية من أجل خدمة وحماية المواطن، وأن لا يكون هذا فى الأزمات والطوارىء!!!!.