أكثر الكتب تأثيرًا هى المكتوبة بضمير، التى أخلصنا فى كتابتها، ومنحناها أرواحنا قبل أن نهب لها وقتنا، ومن ذلك كتاب "فى أثر عنايات الزيات" للشاعرة إيمان مرسال، الصادر مؤخرًا عن الكتب خان.
كانت إيمان مرسال على وعى تام، منذ البداية، بأنها لا تكتب سيرة عنايات الزيات (1936- 1963) إنها تتبع أثرها فقط، تُشير فى أكثر من مكان فى الكتاب، إلى أنها لم تفعل ذلك تطفلًا، لكن عنايات كانت موجودة دائما تأخذ بيدها وترسل إليها من يساعدها فى بحثها المهم، لذا استغرق الكتاب سنوات، الفكرة تطارد إيمان مرسال وهى بدورها تطارد الحقائق، الأشياء تتكشف أمامها جزءا جزءا، نادية لطفى ثم العائلة ثم الجيران، لكن البداية كانت من سور الأزبكية، وبداية البحث كانت من المقابر.
عندما تبدأ فى الكتاب، سوف تنفصل تمامًا عن العالم، ستعود بكامل إرادتك إلى مصر القرن العشرين، بل ستعود أبعد من ذلك إلى زمن محمد على باشا وستتقدم إلى عام 2019، زمن صدور الكتاب، ستسير رحلة مهمة مع عنايات الزيات.
وتأتى أهمية كتاب "فى أثر عنايات الزيات" فى نقاط كثيرها منها، أن إيمان مرسال حوَّلت كل التفاصيل الصغيرة إلى قضايا كبرى، كل اسم ظهر فى طريقها تتبعته، كل شارع أو ميدان توقفت أمامه، بحثت عنه وعن تاريخه، ثم قدمته لنا، فى موضوع متصل ومنفصل، مع موضوعها الأساسى "عنايات الزيات".
فى رأيى أن إيمان مرسال كانت "غاضبة" من أجل عنايات الزيات، من أجل حياتها التى ضاعت، وشبابها الذى لم تعشه، لم تكن عنايات تريد شيئًا صعبًا، كانت تريد أن تجد نفسها، أن تكتب فيُنشر لها، أن تتزوج فتلقى الحب من زوجها، أن تنجب فيعيش ابنها معها، أن تدرس فتعمل بما درست، أحلام بسيطة لكن عنايات لم تجد شيئًا من ذلك، خاصة أن الله قد منحها أبًا طيبًا رقيقا هو "عباس الزيات" فتخيلت أنها قد تجد رجلًا مثله فى حياتها لكنها لم تجد، وكان الله قد ابتلاها بروح "حساسة" قابلة للاكتئاب.
كانت إيمان مرسال "غاضبة" من الذين تخلوا عن عنايات الزيات، ثم عادوا ليتاجروا باسمها، فبعد أن كتبت روايتها الوحيدة "الحب والصمت" فى نحو عام 1960 أو بعدها بقليل وسعت جاهدة لنشرها فى الدار القومية فلم تستطع، وبعدما تناولت عشرين قرصًا منومًا فلم تستيقظ فى 3 يناير من عام 1963، وبعد انتظار طال صدرت الرواية فى عام 1967 متأخرة سنوات عن رحيل صاحبتها، وحينها خرج علينا كهان الثقافة فى ذلك الوقت متحدثين عن الكاتبة وصداقتها وإرشاداتهم لها وغير ذلك.
وكانت إيمان مرسال "غاضبة" من الجميع الذين حصروا "انتحار" عنايات الزيات فى رفض نشر الرواية أو خوفها من ذهاب ابنها "عباس" إلى أبيه وتركها، لقد رأت إيمان مرسال أن الأمر أكبر من ذلك، إنه يبدأ مبكرا من إنسانة مهيأة منذ صغرها للاكتئاب، بل عانت منه بالفعل، وذهبت للعلاج فى مستشفى "بهمن"، إنسانة "حساسة" أحزنها بُعد صديقتها الأثيرة الفنانة نادية لطفى عنها وانشغالها بعالمها السينمائى، وأرهق أعصابها زوج غير حنون يعاملها بقسوة حتى عندما طلبت الطلاق عاندها، وحاول أن يفسد علاقتها بطفلها، وعندما وجدت الحب بعد ذلك، لم تكن قادة على مجاراته للنهاية.
لم تتبع إيمان مرسال أثر عنايات الزيات فقط، بل تبعت أثر نفسها، وقفت على بعد مسافة من ذاتها (شاعرة وأكاديمية وأم وامرأة)، كما تتبعت أثر نادية لطفى وأيامها، التى قالت فى أحد حواراتها عما حدث لـ "عنايات الزيات" إن العالم يمضى بلا ضمير، وأثر عظيمة الزيات وعائلتها، وأثر مدام النحاس ومنطقة الدقى، وحتى الأجانب الذين جاءوا إلى مصر بمحبة فائقة عاشوا فيها وعثروا على أنفسهم وتركوا أثرهم وعلى رأسهم لودفيج كايمر.
صاغت إيمان مرسال الكتاب كأنه قصيدة شعر وليس كتابًا سرديًا، لذا جاء نابعا من روحها، لقد بكت فى المقابر عندما عثرت على قبر عنايات الزيات بعد عناء، كما حزنت من أجل "عباس" ابن عنايات الذى مات فى شبابه أيضا، مات فى سنة 1983، فتساءلت: هل ورث الاكتئاب والحظ السيء والعمر القصير، أم أنها خطوط المصائر المتشابهة؟ وأعتقد أنها بكت كثيرًا عندما بلغها تحطيم شاهد قبر عنايات الزيات فى أبريل من عام 2019.
سيتحول كتاب "فى أثر عنايات الزيات" إلى مرجع مهم، عن حياة "عنايات" وعن كيفية الكتاب "المتقنة" عن الآخرين، وسيظل علامة فى تاريخ إيمان مرسال.