تستقبل مصر والعالم فى الخامس عشر من ديسمبر الحالى فعاليات اليوم العالمى للإفتاء تحت عنوان «الفتوى حياة»، وهو عنوان يجمع كثيرًا من المعانى والمقاصد التى حث الله تعالى عليها فى القرآن الكريم، ودعا إليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى سنته الشريفة، كل ما يدعم الأمن والرخاء والاستقرار والتعاون والتعايش، وهو من معانى الحياة الطيبة، وفى ذات الوقت من مقاصد الفتوى الأصيلة التى تصدر عن أهل العلم الراسخين المخلصين، لا سيما المؤسسات الدينية العريقة.
ويوم الإفتاء العالمى تحتفل به دار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم، مع لفيف من علماء ومفتيى العالم الإسلامى ويعتبر الاحتفال بهذا اليوم تتويجا لجهود كبيرة تقوم بها الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم، واستمرارا لمسيرتها الجادة الواعية فى طريق تجديد الخطاب الدينى، خاصة فيما يتعلق بالإفتاء، وما شابه من ممارسات جماعات ضالة منحرفة استغلت الفتوى فى الترويج لمفاهيم خاطئة حرضت على العنف والإرهاب والقتل وسفك الدماء.
لقد انحرفت هذه الجماعات بالفتوى واستغلتها فى الدعاية السياسية فى أحداث وفعاليات سياسة كثيرة، فكان بعضهم يفتى بوجوب انتخاب شخصيات معينة تنتمى إلى تيار بعينه، وبحرمة انتخاب شخصيات معينة لا تنتمى إلى ذلك التيار، فهذه الجماعات الضالة خالفت مقاصد الفتوى .كما أرادها الله سبحانه وتعالى، وسنها رسوله، صلى الله عليه وسلم، ونبه عليها أئمة الدين، فالإسلام دين يسر كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم «إن الدين يسر».
فأول مقاصد الفتوى تحقيق التيسير على المكلفين، بما يراعى واقعهم وحاجاتهم والمتغيرات والظروف التى طرأت على المجتمع، وقد كان التيسير منهج حياة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما روت السيدة عائشة رضى الله عنها «ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما»، وهذا المقصد العظيم من مقاصد الإسلام والإفتاء أهدرته تماما فتاوى جماعات التشدد والإرهاب فدائما ما يشددون على الناس ويحملونهم على ما لا يناسب العصر والحال من الأقوال الفقهية التى لم تعد تناسب الواقع، ومن المقاصد الهامة للإفتاء تحقيق الأمن والاستقرار فى المجتمع والبعد عن كل ما يثير الفوضى ويؤدى إلى الفتنة، وهذا يعنى بطبيعة الحال وجوب النظر إلى المآلات وما يحقق المصالح ويدرء المفاسد من فتاوى، والله تعالى قد مدح الأمن ودعا إليه وامتن به على الناس بقوله تعالى «وآمنهم من خوف»، وهذا ما يحققه الإفتاء المؤسسى الراسخ الذى يرتكز على ثوابت علمية وينطلق من أسس وطنية، فالإفتاء المؤسسى يحرص على سلامة البلاد وأمن العباد، ويتوخى فى منهجه الإفتائى المحافظة على أمن وسلامة المجتمع ككل، وليس أفراده المسلمين فقط، وهذا بخلاف المنهج الطائفى للجماعات المتطرفة التى مارست من خلاله الفتوى بطريقة طائفية بغيضة مقيتة.
وكم صدرت فتاوى شاذة من هذه الجماعات تحرض على إخواننا من غير المسلمين وتستبيح دور عبادتهم، ولا تراعى ما راعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى المدينة المنورة، من إعلاء قيم التعايش السلمى، وتحقيق السلم والأمن فى المجتمع للمسلمين وغير المسلمين على قدم المساواة، كما بدا ذلك واضحا من خلال وثيقة المدينة المنورة التى نص فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على المماثلة فى الحقوق والواجبات بين جميع أطياف المجتمع دون تفريق على أساس عرق أو دين، وهذا المجتمع الذى تترسخ فيه قيمة الأمن والتعايش والتراحم والمساواة بين جميع أفراده سوف يحصد بالضرورة ثمار هذا التوجه الراقى الذى دعمته الفتاوى الوسطية فى صورة تنمية حقيقية لكل مرافق ومؤسسات وقطاعات هذا المجتمع.
فالإفتاء المؤسسى يرفع من قيمة العمل وأهميته، والإفتاء الذى رسخ هذه القيم النبيلة قد محا أيضًا من قاموس حياتنا الانشغال بتوافه طائفية مقيتة، مثل حرمة تهنئة غير المسلم بعيده وحرمة السلام عليه، وحفز همة أبناء المجتمع إلى السعى نحو الرقى وتحقيق التنمية الحقيقية للوطن والمجتمع، واستغلال ثوابت الأديان وقيمها المشتركة؛ كالصدق والأمانة والرحمة والعدل والتعايش، فى النهوض بالمجتمع حتى يحقق الرخاء والسلامة والقوة للوطن الذى هو سفينة النجاة للجميع، والفتوى المؤسسية التى تحقق هذه المقاصد السامية النبيلة تتكون عبر مراحل دقيقة من الصناعة الفقهية الجادة التى يقوم عليها علماء راسخون فى العلم، مأسسون على مستوى راق من العلم والفهم والدراية بالواقع، وطنيون مخلصون لم يبيعوا دينهم فى سوق جماعات التطرف والإرهاب، وقد أطلقت الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم عددًا من المؤتمرات والمبادرات التى تدعم تأصيل وبناء وترسيخ الفتوى على أسس ثابتة من هذه القيم التى أشرنا إليها، وقامت الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم بإعداد برامج تأهيل وإعداد وتدريب الكوادر من العلماء العاملين فى مجال الإفتاء على مستوى العالم على تفنيد وتفكيك أفكار الجماعات المتشددة ورد الشبهات التى انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعى.
وإننا نرجو الله تعالى أن يكون اليوم العالمى للإفتاء نقطة انطلاق جدية واعدة لمسيرة الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم، نحو فعاليات جديدة لتجديد الخطاب الدينى.