أن تكون فنانا ليس معناه أن تكون مجرد شخص يؤدى فنا معينا من الفنون وفقط، وألا تكون محترفا لأحد مجالات الإبداع وفقط، لكن الفن الحقيقى، هو أن تكون صاحب رؤية، وأن تكون ذا بصيرة ورأى قوى، لا تخاف لومة لائم، والكلمات السابقة معبرة بقوة ودالة على الموسيقار الكبير يحيى خليل.
فى حفله الأخير الذى أقيم على المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية، لم يكتف الموسيقار الكبير ورائد موسيقى الجاز فى مصر والشرق الأوسط يحيى خليل بتقديم عدد من مقطوعاته الموسيقية المميزة، ولم يكن ليمتع آذان جمهوره الكبير الذى ملأ مقاعد المسرح عن آخره، فقط بضرباته البديعة على آلة الدرامز، لكن الرجل كانت له مداخلاته المميزة التى لا تقل أهمية عن ألحانه الموسيقية.
ومن خلف آلة الدرامز التى طالما أبدع عليه أجمل ألحانه، كان يخرج يحيى خليل مع كل فاصل، ليتحدث إلى جمهوره، فيتحول اهتمام المئات الذين حضروا أمامه من مجرد الاستماع إلى فنانهم المميز بموسيقاه، إلى جمهور يستمتع بآرائه ويبدو لوهلة وكأنه خطيب محبوب وقف أمام أنصاره يمنحهم بركاته ويمنحونه أسماعهم.
تحدث "خليل" عن حال الفن ومدى التأخر الذى يعانى منه، تحدث عن الجمال وتأخر الذوق العام، تحدث وبدى واضحا حزن الرجل على الحال الذى صنع كل هذا القبح فى مدينتنا وجعل البعض يسمونه فنا وجمالا وإبداعا.
لكن أكثر ما لفت الانتباه فى حديث يحيى خليل، كانت حكاية "أبونا عجمى" الكاهن المسئول عن رعاية إحدى كنائس مصر الجديدة، التى طالما كانت تخرج من نوافذها أصوات المرنمين والمبتهلين إلى الله، وكان يحيى خليل ممتلئا بالفن والجمال الذى يحبه الله، يتمنى أن تتاح له فرصة أن يتعلم ويعزف على ألته الأثيرة "الدرامز".
ذهب "يحيى" إلى راعى الكنيسة، وطلب منه أن يأتى بآلاته ويعزف عليها داخل أسوارها بين المؤمنين والمتقربين، لكن "الكاهن الشامى" بلكنته المميزة، رد عليه ردا بسيطا برر له رفض طلبه، بأن الكنيسة مخصصة لخدمة أبناء الطائفة، وبدى واضحا لـ"خليل" الصغير وقتها، أن حلمه قد تبخر.
مرت الأيام والأسابيع وبعد حوالى ستة أشهر، وبينما كان "خليل" ينظر من نافذة بيته إلى السماء يسأل الله، لماذا حببه فى الدرامز، وصعّب عليه إمكانية العزف عليه، رن هاتف المنزل، وعندما رفع سماعة الهاتف، وجد صوت "أبونا عجمى" يأتى من بعيد ليخبره، أنه ظل يبحث عن هاتف منزله كل تلك الفترة، لأنه شعر بقلبه المؤمن أنه صدم قلب هذا الصغير، ووقف أمام طموحه بأن يتعلم شيئا رائعا، وأكد له أنه خصص له حجرة كانت له من أجل يجلب فيها "الدرامز" ويتعلم عليه فيها، كما سمح له أن يجلب أصدقاءه من محبى الفن ليتعلموا أيضا معه.
مواقف "أبونا عجمى" لم تتوقف عند ذلك، فيحيى خليل أخبر جمهوره أن أول جيتار جاء للموسيقار الراحل عمر خورشيد كان إهداء من الكاهن المؤمن ليتعلم عليه "خورشيد"، ويحترف عليه العزف.
سمعت تلك الكلمات وتساءلت: ماذا لو قام كاهن الآن بمثل هذا الموقف؟ ربما كان سيتهمونه بالتبشير، وربما حوكم أيضا، وربما كان ليرفض أن يساعد الشباب من البداية، إما لأنه لا يعرف تعاليم الله جيدا، أو أنه خشى مساءلة الناس.
فى النهاية تأكدت أنه ليس الفن ومعايير الجمال فقط هى من تراجعت، لكنى تأكدت تماما أن رجال الدين المحبين للدين والدنيا، ذهبوا أيضا وتركوا لنا هؤلاء الجالبين لجهنم، والذين لا يتحدثون لنا إلا عن "الجحيم" ونسوا جميعا "المحبة" و"الرحمة" الذى ذكرها الله.