منذ انبرى د. إبراهيم البحراوي لدعم ثم تخليد ذكرى زميل دراسته في المرحلة الإعدادية في مواجهة قوات العدوان والاستعمار البريطاني الراحل، وهو كما هو معتز بوطنه وبنفسه وبعلمه. من حسن حظي أنه سمح لي بالاقتراب منه لسنوات وسنوات، تحديداً منذ مطلع التسعينات فور عودته من مهمة علمية في إحدى البلدان العربية الشقيقة، كان يرى أنها مهمة لا تقل أهمية عن خدمة مصر وتخريج كتيبة من المتخصصين ذوي حس وطني وثقافة ووعي بحجم المخاطر.
لا شك لدي أن الطفل البورسعيدي الشهيد الذي ودع الانجليز الراحلين بعد هزيمتهم سياسيا بحجر قابله العدوان برصاصة أنهت حياته مبكراً قد أثر فيه. روى لي كثيرا عنه، وعن أبطال مصر الرابضين بمدافعهم سعيا لصد العدوان الثلاثي الغاشم، وعن المقاومة وتوزيع السلاح على الأهالي بنفس نبرة الحماس التي تحدث فيها عن مواجهته للأسرى الإسرائيليين في 67 و73، ومعاركه من أجل الحفاظ على الجنيزاه القاهرية، ومن أجل عروبة القدس.
اقتربت من الفقيد عندما سمح لي بالمشاركة المتواضعة في مؤلفات ودراسات وترجمات كان حريصا فيها على حفظ حقوقي الأدبية والمالية في توقيت ذي دلالة، تعلمت منه الكثير وأنا أرصد: كيف كان مقاتلا عنيدا ولو تضررت مصلحته الشخصية، في وجه من يضلل ويشكك في عروبة القدس على سبيل المثال. وكيف أدى دوره في التحقيق مع الأسرى بذكاء وحرفية على أكمل وجه وهو يحمل رتبه المقدم، وأرسى قيمة العمل الجماعي -وهو عنصر مفتقد في مصر للغاية.
وحين تم ترشحيه للانضمام لإحدى لجان الحزب الوطني المعنية بمصر والعالم، أصر عبر صفحات جريدة الوفد وفي الغرف والاجتماعات المغلقة على الإصلاح من الداخل -في محاولة فشلت- فقرر الاستقالة قبل سقوط مبارك، خاصة حين رأى من رشحه للجنة (د. مصطفى الفقي) يستقيل أيضا.
تعلمت وتعلم تلاميذه منه حبه للحياة، وتابعت كيف كان يصبر على المرض الذي جعله يتناول يوميا كميات كبيرة من الأدوية، وكيف كان يمارس الرياضة بالتزام يتحدى المرحلة السنية التي وصل إليها.. في ناديه المفضل، أو في حديقة قرب منزله العامر، أو على شاطئ البحر أو حتى في مول تجاري؟ تجلى حبه للحياة في انتقائه للطعام سواء أكان غداءا فاخرا على شاطئ النيل أو شريحة من الجبن في المركز التجاري القريب من منزله، أو انتقاء سيمفونية للاستماع إليها.
وهي أجواء رافقته في مسيرته وساهمت في إنتاج مؤلفات أضافت الكثير للمكتبة العربية مثل: "العرب واليهود بين الصراع والتسوية"، "الدين والدنيا في إسرائيل"، "الصراع والتوافق الديني العلماني- التجربة الثقافية اليهودية"، "دراسة مستقبلية حول عملية السلام"، ومن قبلهم تدشين صفحة "كيف تفكر إسرائيل" في صحيفة الأخبار.
كان قائداً وأباً، عامل من هم أصغر منه بسنوات قليلة كأبناء، واحتوى حتى الأطفال تاركا لهم مساحة للاختيار والمفاضلة مرسخا فيهم قيم الاستقلالية وعدم التواكل والثقة بالنفس، ونظافة اليد.
رحل وهو يمارس عمله كالمعتاد، ويقود أنشطة مستقبلية مشجعاً شباب الباحثين على مزيد من الجهد وصقل الخبرات.
رحل وعلى وجهه رضاً صوفي، وإيمان برحمة الملك القدوس. فهل يتم تكريمه في جامعته بإطلاق اسمه على أحد مدرجات كلية الآداب؟ وهل يكون سبباً في تكريم عدد من الأسماء التي ننتظر حتى الآن تكريمها بما يليق بها وبعطائها من خريجي الجامعة: كلية الهندسة لواء مهندس "باقي زكي يوسف" مخترع آلية مدفع المياه لإسقاط خط بارليف، ومن أساتذة الجامعة وزملاء د. البحراوي د. رشاد عبد الله الشامي الرائد في مجال الدراسات العبرية وصاحب الإنتاج العلمي الغزير.
اللوائح المنظمة تسمح في الجامعة بهذا التكريم، وانجازاته انعكست على حصوله على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، وجائزة الدولة للتفوق في العلوم الاجتماعية، وجائزة التخطيط المستقبلي العربي من جامعة الدول العربية وجائزة البحوث الممتازة من جامعة عين شمس، وفي انتظار التطبيق تحفيزا للأجيال القادمة على مزيد من الجد والاجتهاد، وتعريفا بما قدمه الراحل من تنوير وتوعية. ويمكن لوزارة الثقافة التي صدر عنها بقيادة الراحل الكبير: "انتصار أكتوبر في الوثائق السرية الإسرائيلية" أن تكرّمه أيضا بتكليف عدد من الباحثين والمقربين بكتابة مؤلف جماعي يرصد أهم محطات حياته وإسهاماته العلمية لمصر وللعالم العربي، والتي خاضها جميعا بروح مصرية خالصة روح طفل بريء، وعقل عالم، وإرادة مقاوم صلد.
إن الجانب الإسرائيلي معقد تماما من الداخل، والتقلبات نحونا وأطماعه التوسعية لا تخفى على أحد، ومراقبتها عن كثب وتحديث الخرائط المعرفية الخاصة به يتطلب منا استدعاء ما تركه لنا قائد كتيبة الدراسات العبرية في مصر الدكتور البحراوي ونهجه ومدرسته في مواجهة إسرائيل.