خرجت مصر قديما من حربها مع الهكسوس بمجموعة من الدروس المستفادة - على عهدة المؤرخين - ومن أهمها: إنه لا إمكانية لتحقيق أمن البلاد وازدهارها إلا بتكوين جيش قوى يصون لها كرامتها ويشعر جيرانها بقوته، وأن الحكام والقادة العسكريين أدركوا أن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع، وبنوا سياستهم على أساس تصنيع الأسلحة بكافة أشكالها فى مصر، وبهذا السلاح نفسه انطلقت الجيوش المصرية نحو حدودها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا لتكوين واحدة من أضخم إمبراطوريات العالم القديم .
وها نحن فى القرن الواحد والعشرين، ومنذ (1675ق.م ) وحتى الآن ماتزال نفس العقيدة الراسخة عند حكام وقادة مصر العسكريين، مؤكدة دوما على أن يكون جيش مصر قويا كى يصون كرامتها ويضمن أسباب ازدهارها ونموها على المستوى السياسى والاقتصادى بين كافة الأمم، وهذا ما يترجمه عمليا وفى كل يوم عن كثب "الرئيس عبد الفتاح السيسي" القائد الأعلى للقوات المسلحة، فى سعيه الحثيث على تقوية شوكة الجيش على مستوى التسليح والكفاءة القتالية والوقوف دوما على أسباب العصر من تقدم تكنولوجى فى السلاح، لذا يحرص على تنوع مصادر السلاح التى تضمن التفوق الذى يقود بالضرورة إلى الاستقرار، وربما شيئا من هذا القبيل شاهدناه بأعيننا مباشرة من خلال المناورة "قادر 2020" و افتتاح قاعدة "برنيس" قبل أيام.
لقد شهدت فعاليات تلك المناورة التى تعد الأكبر فى تاريخ القوات المسلحة خلال الـ 6 سنوات الأخيرة، ولأول مرة فى الجيش المصرى يعلن عن أسماء الأسلحة الجديدة فى بيان رسمى، حيث ظهرت الطائرة "الكاموف" وطائرات جديدة أخرى فى المناورات، كما أعلن الجيش عن الوحدة 999 قتال أحد أهم وأقوى وحدات الصاعقة المصرية فى أثناء المشاركة فى المناورة من جانب قوات من الجيشين الثانى والثالث الميدانيين، وشاركت تشكيلات ووحدات القوات المسلحة من القوات البرية والبحرية والجوية وقوات الدفاع الجوى، إضافة إلى عناصر القوات الخاصة من الصاعقة والمظلات، فى تنفيذ عدد من الأنشطة التدريبية تتضمن عمليات الفتح الاستراتيجى للقوات على كافة الاتجاهات الاستراتيجية للدولة وعلى ساحلى البحرين الأحمر والمتوسط.
وفى أثناء تلك المناورة تم تنفيذ عدد من الرمايات بالذخيرة الحية لمختلف الأسلحة من القوات البحرية والقوات الجوية وقوات الدفاع الجوى والقوات البرية، بما يثبت قدرة القوات المسلحة على تأمين المصالح القومية للدولة والتعامل مع كافة العدائيات على كافة الاتجاهات الاستراتيجية فى توقيت متزامن، هذا وتعد المناورة (قادر 2020) تأكيد عملى على قوة وجاهزية القوات المسلحة لحماية مقدرات وثروات الوطن، حيث شهدت القدرات القتالية للقوات المسلحة تطورا ملحوظا خلال السنوات الخمسة الماضية، وأثبت المقاتل المصرى أن لديه القدرة على استيعاب التسليح الحديث بما فيه من تكنولوجيا عالية متطورة، فى وقت قصير.
وفى إطار "خطة الفتح الاستراتيجى" لوحدات المنطقة المركزية العسكرية بالتعاون مع هيئات وإدارات القوات المسلحة، قامت عناصر من المنطقة المركزية العسكرية فى أثناء (قادر 2020) برفع درجات الاستعداد القتالى، حيث تضمنت اصطفاف للقوات المشاركة وتنفيذ إجراءات التحميل والفتح الاستراتيجى لمعاونه الجيوش الميدانية والمناطق العسكرية، كما نفذت إحدى وحدات المنطقة المركزية مشروع تكتيكى بجنود مع الرماية بالذخيرة الحية أظهر مدى ما تتمتع به وحدات المنطقة المركزية العسكرية من كفاءة تدريبية عالية، كما قامت عناصر المنطقة الجنوبية العسكرية برفع درجات الاستعداد وتنفيذ مشروع تكتيكى مع الرماية بالذخيرة الحية مع تأمين الحدود الجنوبية مع دولة السودان ودولة ليبيا وتنفيذ العديد من الأنشطة داخل نطاق المنطقة الجنوبية العسكرية.
وفى ذات الوقت تم تنفيذ عدد من طلعات الاستطلاع وتقديم المعاونة النيرانية للعناصر المشاركة فى تنسيق تام مع قوات الدفاع الجوى، وكذلك معاونة القوات البحرية أثناء تنفيذ مهامها لتأمين المصالح الاقتصادية فى مسرحى عمليات البحرين الأحمر والمتوسط وتنفيذ أعمال النقل الاستراتيجى لقوات الصاعقة فى اتجاهات عملها، والقيام بتنفيذ عمليات الإنزال والإسقاط لقوات المظلات مع تقديم المعاونة الجوية باستهداف البؤر الإرهابية على كافة الاتجاهات بالتعاون مع التشكيلات مع الاستعداد لتنفيذ مهام الإخلاء الطبى والبحث والإنقاذ.
ومن جانبها قامت قوات المنطقة الغربية العسكرية بتنفيذ عدد من الأنشطة على امتداد الحدود البرية والساحلية بالتعاون مع الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة وقوات حرس الحدود حيث تم رفع درجات الاستعداد القتالى للتشكيلات والقواعد العسكرية مع تنفيذ "خطة الفتح الاستراتيجي" لعناصر المنطقة الغربية على كافة المحاور والاتجاهات، وتنفيذ العديد من المشروعات التكتيكية بالذخيرة الحية باشتراك عناصر القوات الجوية والدفاع الجوى، وكذا تأمين السواحل البحرية والبرية بالتعاون مع القوات البحرية وقوات حرس الحدود.
وكان لقوات المظلات عددا من الأنشطة التدريبية تضمنت رفع درجات الاستعداد وتحميل كتيبة مظلات بواسطة عدد من طائرات النقل مختلفة الطرازات، وتنفيذ إبرار جوى لوحدة مظلات بواسطة عدد من طائرات الهليكوبتر وتكليفها بمهمة القضاء على العناصر المعادية وتأمين مناطق الإنزال وتحقيق التقابل مع القوات الصديقة، وكذا إسقاط عناصر قفز حر بواسطة الهليكوبتر المتمركزة على سطح حاملة المروحيات طراز (مسترال) وتكليفها بمهمة تأمين رأس الشاطئ.
الأمر الملحوظ لى ولغيرى من المصريين أنه فى قلب مناورة (قادر 2020) ظهر تطورا كبيرا ومذهلا على مستوى التدريب للقوات المشاركة بحيث يشهد لهم بالمهرة القتالية، الأمر الذى يصل لدرجة العمليات الحقيقية، بدليل أن القوات المشاركة فى المناورة استخدمت الذخيرة الحية، وهو ما يؤكد على الواقعية العالية جدا فى التدريب، كما يبدو ملحوظا أيضا أن القوات المسلحة اشتركت بالكامل فى المناورة بما تحتويه من الأفرع الرئيسية والمظلات والصاعقة، لذا بدت المناورة كبيرة جدا نظرا لوجود مؤشرين: الأول اشتراك كل أسلحة القوات المسلحة، والثانى أنها نفذت على الجهات الاستراتيجية الأربعة، وهذا يعكس حقيقة مهمة مؤداها مدى جاهزية القوات المسلحة، حيث تنفذ المناورة وكأن القوات فى حرب حقيقية.
(قادر 2020) - على عهدة كثير من الخبراء العسكريين - تبعث برسالتين مهمتين فى هذه المرحلة الحساسة من تاريخ مصر، الأولى: ردع لكل من يفكر فى تهديد ترابنا الوطنى أو مصالحنا الحيوية داخل وخارج الحدود، والثانية: طمأنة للشعب المصرى، ما يؤكد أن مناورة قادر التى تعد الأضخم لم تنفذ فى التوقيت الجارى من قبيل الصدفة، تهدف إلى طمأنة الشعب المصرى بأن لديه قوات مسلحة قادرة على حماية حدود بلاده وحقوقها الاقتصادية، وذلك فى ظل أن مصر باتت مهددة لأول مرة من الاتجاهات الأربعة الشمالية والجنوبية والشرقية والغربية، ولهذا تم تدعيم القوات المسلحة بالغواصات وحاملات الطائرات وغيرها من الأسلحة الحديثة.
ربما لاتستهدف (قادر2020) دولا بعينها فى المنطقة الملتهبة حاليا من حولنا، ولكنها ترمى فى الوقت ذاته إلى أهداف أخرى على المستوى الاستراتيجى، وذلك على غرار ما ذكرته سابقا من الدروس المستفادة من حرب الهكسوس - قبل 3695 سنة – تأتى الأهداف الآنية وأبرزها: الاشتراك فى تخطيط وإدارة العمليات المشتركة مع القوات الصديقة، والعمل فى مراكز القيادة والتنسيق المشترك وما توفره من إمكانات التعرف على أحدث الوسائل والأساليب المستخدمة فى التدريب، وفى ذات الوقت تسعى لصقل مهارات القوات وكسر الحاجز النفسى لدى الجندى المصرى تجاة التعامل مع قوات الدول الغربية المتقدمة، وبث الثقة فى النفس نتيجة إثبات قدراته العالية فى التدريب، وإمكانية استخدام أحدث الأجهزة والمعدات العسكرية بكفاءة بشهادة جميع المشتركين من الدول الصديقة، أيضا تدعيم خبرة عناصر الأمن على كافة المستويات، من خلال الممارسة العملية فى تأمين القوات المصرية والأجنبية المشتركة فى التدريبات فى جميع المراحل.
ومن ضمن تلك الأهداف الاستراتيجية أيضا: التعرف على أسلوب تأمين الدول الصديقة لقواتها خارج أراضيها، وكذا أحدث الوسائل الفنية المستخدمة فى ذلك، وتوسيع مجال الاختيار لدعم قواتنا المسلحة بأحدث المعدات والأسلحة والتى يتم التعرف عليها من خلال استخدام الدول الصديقة لها خلال فترة تنفيذ التدريبات مما يعطى مجال أكبر لتقييمها عمليا، وفتح مجال لتسويق السلاح المصرى، خاصة للدول العربية والأفريقية، مع رفع كفاءة ومستوى الخدمات والمرافق والبنية الأساسية بالقواعد الجوية والبحرية التى تستقبل قطع حربية أجنبية لمساعدة الدول الصديقة، وهذا من شأنه أن يؤدى إلى اكتساب الخبرات من الدول المتقدمة عسكرياً فى جميع المجالات.
على جانب آخر من تطوير قدرات القوات المسلحة المصرية، شهد الرئيس عبدالفتاح السيسى، الأربعاء 15 يناير 2020 افتتاح قاعدة "برنيس" العسكرية بمنطقة البحر الأحمر، وذلك بحضور ولى عهد أبو ظبى، نائب القائد العام للقوات المسلحة "الشيخ محمد بن زايد"، ونائب وزير الدفاع السعودى الأمير "خالد بن سلمان"، فضلا عن حضور رئيس مجلس النواب، الدكتور على عبدالعال، ورئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى، والفريق أول محمد زكى، القائد العام للقوات المسلحة، وزير الدفاع والإنتاج الحربى، وعدد من الوزراء وكبار رجال الدولة والقوات المسلحة، بالإضافة إلى عدد من ضيوف مصر من الدبلوماسيين.
تعتبر قاعدة "برنيس" بمثابة انطلاقة عسكرية تليق بجيش مصر الوطنى الذى لم يتوان عن تطوير منظومته التسليحية والارتقاء بها إلى أعلى معدلات الكفاءة القتالية، وهى تعد الثانية فى سلسلة القواعد العسكرية الجديدة، رغم أن تم انشائها فى وقت لا يتعدى سنة على مساحة تبلغ 150 ألف فدان، وتضم العديد من ميادين الرماية، كما تضم قاعدة جوية وقاعدة بحرية متطورة، وتشمل مستشفى عسكرى و رصيف بحرى، ومن ثم تكمن مهمتها الأولى فى حماية وتأمين السواحل المصرية الجنوبية، ومن مهامها أيضا حماية الاستثمارات الاقتصادية والثروات الطبيعية فضلا عن مواجهة التحديات الأمنية فى نطاق البحر الأحمر وتأمين حركة الملاحة العالمية بهذا البحر الحيوى والهام لمصر والمنطقة بأثرها.
ومن هنا يحق لمصر التفاخر بما وصلت إليه قواتها المسلحة بين أكبر جيوش العالم، وخاصة ما تحويه قاعدة "برنيس" - الأضخم فى الشرق الأوسط - من لوجستيات تصب فى دعم قدرات الجيش المصرى للسيطرة الكاملة على جنوبى البلاد، ففى شقها الجوى تضم عددا من الممرات بطول 3 آلاف متر وعرض يتراوح من 30 مترا إلى 45 مترا، وعدد 2 ترمك، بالإضافة إلى عدد من دشم الطائرات بقوة تحصين كبيرة، كما تضم "هنجرا" عاما لصيانة واصلاحات الطائرات، وهو ما يؤكد أن تلك القاعدة تمثل عنوانا للتكامل بين أنظمة التسليح وكافة عناصر القوات المسلحة من الوحدات الميكانيكية والمدرعات والإشارة والحرب الإلكترونية ووحدات المراقبة بالنظر والوحدات الادارية تحت ستر عناصر الدفاع الجوى بالتعاون مع القوات الجوية والقوات البحرية.
وبعد كل ما مضى أليس حريا بنا بعد كل تلك الأساطير التى سجلها ويسجلها الجيش المصرى أن ننظر بعين الاعتبار إلى تاريخ بلادنا الحربى، الذى لم يكتب بعد كتابة فنية تليق بما حققه المقاتل المصرى من بطولات معجزة قادته دائما إلى النصر، فقد اعتاد مؤرخونا على أن يدمجو الأحداث العسكرية ضمن الأحداث السياسية التى مرت بالبلاد، ولذلك فإنهم لم يتناولوا بطريقة مفصلة دراسة تاريخ البلاد من الناحية العسكرية، فلم يبحثو تطور جيوشها، وتطور صناعة أسلحتها، وأساليب قتالها وتحليل معاركها، وأسباب ظفرنا أو هزيمتنا ...إلخ، مثلما نقرأه عن الجيوش الغربية الأحدث منا عهدا وحضارة.