لعلّك سمعت ورأيت ومارست هذه العادة الشهيرة، أن تأكل القلقاس والقصب فى موسم انتشارهما، بعد عيد الميلاد المجيد بأسبوعين تقريبا، وربما تخيلت أن لهذه العادة المسيحية أصلا فى الكتاب المقدس، ولكن الحقيقة أنه لا أصل لها فى الأناجيل والرسائل على تنوعها، ولكن لها معانى روحية عديدة وملهمة وتؤكد رسائل الله ويسوع والرسل لجموع البشر.
يُعرف عيد الغطاس باسم «عيد الثيوفانا»، أى الظهور الإلهى، وذلك لأن الأقانيم الثلاثة «الآب والابن والروح القدس» ظهرت فيه، وفى هذا العيد يأكل المسيحيون أنواعا معينة من الأطعمة، لعل أشهرها وأوسعها انتشارا القلقاس والقصب والبرتقال.
القلقاس مادة سامة ومضرة بالحنجرة فى شكلها الأصلى «المادة الهلامية»، لكن هذه المادة إذا اختلطت بالماء تحولت لمادة نافعة ومغذية، والأمر فى النظرة الدينية لا يختلف عن هذا أيضا، فنحن من خلال الماء «المعمودية» نحوز سرا من أسرار الكنيسة، وبه نتطهر من سموم الخطية كما يتطهر «القلقاس» من مادته السامة.
“القلقاس» كنوع من الدرنيات، يُدفن فى الأرض، ثم يصعد ليصير طعاما، وهو بهذا يشبه سر المعمودية، لأنها دفن أو موت، وقيامه مع المسيح، ولهذا يقول معلمنا بولس الرسول: «مدفونين معه فى المعمودية التى فيها أقمتم أيضا معه»، وأيضا «بالمعمودية نخلع ثياب الخطية أو الإنسان العتيق ونلبس ثياب الطهارة والقداسة» «كو 2: 12» «رو 6: 4».
لا يؤكل القلقاس إلا بعد خلع القشرة الخارجية، فدون تعريته من تلك القشرة السميكة لا فائدة له، ونحن فى المعمودية نخلع ثياب الخطية لنلبس - بسر المعمودية - ثيابا جديدة الفاخرة، ثياب الطهارة والنقاوة، لنصير «أبناء الله».
وفى قصة تاريخية متداولة بالصعيد، ضمن الفولكلور المصرى بالغ الثراء، يُقال: إن مسيحيى الصعيد كانوا يأكلون القلقاس عقب قداس عيد الغطاس، ثم يحملون آنيتهم وأطباقهم إلى سطوح منازلهم، تاركينها للندى والمطر الذى كان يهطل كثيرا فى هذه الفترة، ليغسلها من أثر القلقاس، وإذ أمطرت السماء وغسلت الآنية، كان ذلك تأكيدا لغسيل الخطية، وقبول السماء، وبشارة بعام خير ومحبة.
هذا عن القلقاس، فماذا عن القصب وارتباطه بعيد الغطاس؟
القصب أبيض القلب «حلو الطعم»، وفى هذه المناسبة الدينية الروحية نستحضره، كنبات ينمو فى الأماكن الحارة ذات الأجواء الجافة، ليذكرنا بأن حرارة الروح تُنضج الإنسان، وتجعله ينمو ويتدرج على رحلة الصعود الروحى، ويرتفع باستقامة كاستقامة هذا النبات «القصب».
يتكاثر القصب بطريق «العُقَل الساقية»، إذ تُغرس هذه العُقَل فى التربة، ليخرج منها نبات كامل حى، وهذا رمز آخر للمعمودية، كما ينقسم «القصب» لعقلات، وكل عقلة فضيلة اكتسبها فى كل مرحلة عمرية حتى وصل لهذا العلو، وهو ما يمكن للإنسان أن يتمثّله فى مراحل «عُقلات» حياته.
فى عود القصب الممتد فى صلابة ظاهرة، يختبئ ليّن طيّب، وطعم أطيب، وقلب أبيض، هكذا لا يبدو ظاهر الشىء دليلا نهائيا على باطنه، تماما كالإنسان الذى مهما فعلت به الحياة أفاعيلها، أو جار الزمان عليه، سيقف صلبا شامخا، ربما تتعقد ملامحه ولا تنبسط أساريره، ولكنه سيظل من الداخل، وفى عمق الروح، ليّنا وأبيض وذا طعم إنسانى جميل، فجوهر «الحلاوة» والبياض واللين، فى قلوب نقية، تخلص ليسوع، وتتطلع لأمجاده السماوية، وتعتصر نفسها من أجل الآخرين، كما كان المسيح الفادى.
ضمن طقوس عيد الغطاس أيضا، يحضر البرتقال واحدا من مفردات وتفاصيل وأطعمة عيد المعمودية أو عيد الخروج الإلهى.
إذا كان القلقاس يلين ويتحول من الضرر للفائدة بالماء، فإن البرتقال يختزن الماء فى داخله، فكأنه الطهارة المخبوءة فى قلب المؤمن، ومن هذا اللين الداخلى، الذى ينعكس على الخارج أيضا، تًصنع من قشر البرتقال فوانيس يُوضع فيها شمع على هيئة «صليب» محفور فى جسد البرتقالة، فكأن هذه القشرة خبز التناول، أو لحم يسوع، وكأن ماءها النبيذ أو دم المسيح الفادى، وهكذا يتحول الطعام من مجرد وجبة لسد الجوع، إلى طقس روحانى وإشارات إيمانية، وتجسيد حىّ لتشابه مخلوقات الله فى جوهرها، سواء كانت بشرا أو نباتا أو فاكهة.
وكل سنة وأنتم طيبون.. ومبتهجون بالقلقاس والقصب والبرتقال.