عندما قرر رئيس الوزراء الأسبانى بيدرو سانشيز، نقل رفات الزعيم التاريخى فرانشيسكو فرانكو، الذى يعد أخر ديكتاتور فى أوروبا الغربية، من مزار مشيد خصيصا له، بأحد الكنائس فى العاصمة مدريد، إلى مقبرة عائلته، ثار قطاع كبير من الأسبان، ليعربون عن غضبهم تجاه السياسات الحكومية، فى حالة تعكس حنين إلى عصر الديكتاتورية، فى الوقت الذى يتجه فيه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إلى تقويض الإرث السوفيتى الذى أرساه زعيم الثورة البلشفية فلاديمير لينين، والذى يعتبره أنصار الشيوعية رمزا مقدسا إلى الحد الذى دفعهم إلى تحنيط جثته، منتصرا لرؤية ستالين، التى تميل إلى الديمقراطية المنظمة، إلا أنه فشل فى تطبيقها لطغيان شعبية لينين، عبر تعديلات دستورية مرتقبة ستفتح الباب أمام صلاحيات أوسع للبرلمان.
وبين رفات فرانكو وجثة لينين المحنطة، يتشكل الصراع الدولى الجديد، حيث يبقى التمرد فى دول المعسكر الغربى على قواعد الديمقراطية التقليدية عنوانا مهما للتغييرات التى تشهدها العديد من دولها، بداية من الولايات المتحدة، والعديد من الدول الأوروبية الأخرى، والتى بدأت عبر الصناديق من خلال الانقلاب على الأحزاب الليبرالية فى بعض الدول، والتوجه نحو اليمين تارة، ثم تطورت الأمور بعد ذلك عبر التظاهرات غير المسبوقة التى شهدتها دولا أخرى، للمطالبة باستقالة الحكومات وحل البرلمانات المنتخبة، تارة أخرى، بينما تأججت الصراعات بين السلطات المنتخبة (الرئاسة والبرلمان)، على غرار المشهد الأمريكى الراهن، تارة ثالثة، فى حين تبقى الحكومة الروسية فى مرحلة "الإعداد" للصراع الدولى الجديد.
التحركات الروسية جاءت عبر مسارات متوازية، بعضها فى الخارج عبر توطيد العلاقة بالمحيط الإقليمى، دون انتزاع سيادة دول الجوار، على عكس النهج السوفيتى (اللينينى) الذى آثر النموذج الفيدرالى مع دول أوروبا الشرقية من جانب، بالإضافة إلى توسيع النفوذ الدولى فى مناطق بعيدة، على رأسها الشرق الأوسط عبر البوابة السورية، وربما اتجهت نحو مناطق النفوذ الأمريكى، عبر أوروبا الغربية من خلال ذراع الغاز، بل وامتدت إلى العمق الأمريكى، عبر دول أمريكا اللاتينية، عبر البوابة الفنزويلية تارة، أو التعاون الاقتصادى مع الدول الصديقة لأمريكا فى تلك المنطقة تارة أخرى، فى الوقت الذى تتحرك فيه واشنطن بأحادية غير مسبوقة، فى ظل حالة من التوتر التى تهيمن على العلاقات بين أمريكا وحلفائها
وهنا يمكننا القول بأن إرث الماضى يساهم بصورة كبيرة فى تشكيل المستقبل الدولى، وهو ما يتجسد رمزيا فى جثتى فرانكو ولينين، واللذين فارقا الحياة منذ عقود طويلة من الزمن، بينما مازال وجود بقاياهما مؤثرا فى تشكيل ملامح الصراع فى المرحلة المقبلة، عبر إرثهما، والذى يجد حنينا لدى قطاع من الشعوب التى تمتعت بالديمقراطية ردحا من الزمان، بينما يواجه تمردا لدى دولا أخرى طالما نعتها العالم بالقمع والديكتاتورية، ليصبح العالم أشبه بلعبة "الكراسى الموسيقية" فى ظل تبادل الأدوار بين طرفى الصراع.
ولعل التغييرات التى تشهدها الساحة الدولية فى الآونة الراهنة تبقى دليلا دامغا على خواء المصطلحات والمبادئ، التى طالما استخدمها المنظرون، والتى لم تحمل أية أهداف سوى استخدامها كذرائع، لإجبار الدول الأخرى، للدوران فى فلكها، فى إطار الرغبة فى الهيمنة والسيطرة، ولكن تبقى متطلبات كل مرحلة هى العامل الحاسم فى اختيار التوجه النهائى الذى يتبناه القادة.