حين تهاتفني صديقتي أتعب نفسيا؛ وبشدة. أود لو أرسل رجالاً ليختطفوها وأرسلها لجزيرة نائية.. لتتعلم أن تحب نفسها وتعرف قدرها ثم أرسلها مرة أخرى لعالم البشر.
صديقتي كبرت مع أم لا تعرف للأمومة معنى، فالضرب كتنفس الهواء، والمقارنة بالآخرين (ودوماً الآخرين أحسن وأجمل)، وكم تحميل الذنوب ونتائج أخطاء الأم الشخصية لهذه الطفلة. ثم رفض تزويجها لاختياراتها وحين وصلت السابعة والعشرين كانت زفة العانس ليل نهار، إلى أن اضطرت أن ترضى برجلٍ يكبرها سناً ولم يكمل تعليمه بعد الثانوية وهي حاملة دكتوراه "كارثة لكل ما للمعنى من كلمة" وهو رجلٌ صلف عنيد لا يفقه لا للمشاعر ولا لرقي الكلمة من شيء... اما هي اضعها انا شخصياً مع ايزابيل الليندي، رضوى عاشور وغادة السمان، أمين معلوف، باتريك زوسكند (حين كتب العطر) وأخي مصعب.. من روعة كتاباتها.. حين تبدأ الحديث يصيبني ذهولٌ من حروفها وإحساسها.. كأني مسحورة.. كاتبة تخطف الارواح والأذهان معاً.
لم تعد تكتب.. لم تعد تقرأ.. أصاب روحها الجفاف.. أصبح قلبها مثل المصفاة.. لا شيء إلا ثقوب.. لا مجال لتخزين أى ذكرى أو مشاعر.. فقد اصبحت روحها كتاتونية (مرض نفسي يضع الجسد في حالة تجمد، عدم تفاعل بنسبة 100٪... لحماية النفس من كم الالم والخيبات، وهو أعلى درجات الامراض النفسية). هكذا روحها.... تجمدت من كثر المعاناة النفسية.
أجد نفسي في بعض مكالمتنا أسب وألعن تارة أمها (نعم) وتارة زوجها..
ولكن في آخر مكالمة اكتشفت أن رغم واقعية لومي لهذه الكائنات المريضة.. أن لصديقتي نصيب اللوم الأعظم.
اعرف امرأة كانت under abuse.... تعيش زواجاً قهرياً مع نرجسي، و لكنها انقذت نفسها بنفسها.... داوت جراحها.... ربتت على روحها و احتضنتها.... عادت للدنيا بقوة .... بروح سليمة ( ليست بنسبة كاملة) و لكن مقارنة بالمصفاة، لم يتبقى في قلبها غير بعض الثقوب التي ستداويها.... كلاهما وصل بهما الآلم الى قاع القاع.... مع فرق النتائج.
هذه المرأة لم تنتظر ان ينتشلها او يداويها احد، في حين من احدثكم عنها استسلمت.... و حين يكون لديها بارقة امل، تطفئها هي شخصياً.... بيدها لا بيد عمرو.
تبحث عن اطباء نفسيين، لكنها ليست مستعدة من داخلها للعلاجات، ليس لديها اي طاقة لفعل اي شيء يساعدها طالما تعيش في ذات البيئة اللا انسانية.
أجدني أنتظر مهاتفة مختلفة كل مرة.. وكل مرة يخيب ظني.
أخبرتها اليوم عن كتاب السيدة الرائعة بروعة الدفء في ليالي الشتاء رضوى عاشور - رحمة الله عليها- (لكل المقهورين أجنحة).. أخبرتها أنى اتمنى لو تنبت لها اجنحة كأساطير الأفارقة الامريكيين وتطير بعيداً.. لعالمٍ بلا قهر، بلا عبودية نفسية.
تتنهد فى آخر مكالمتنا ثم تعود لبيتها الذي يشبه روحها الآن.
فصديقتي كانت أنيقة الملبس والروح... اصبحت مبتذلة الهندام، مشوهة الروح.
صديقتي كانت تبحث دوماً عن رواية جديدة تحلق في عالمها....
اصبحت تغرق في جهل حاضرها... و تضع صخورا على قلبها لتثقله يوماً بيوم...
صديقتي اختارت قسراً لا طوعاً ان تمشي عارية الروح في ليلة شتاء قارسة.... و للأسف كل لياليها شتاء قارس.
من الممكن أن لا أستطيع مساعدتها غير بكلماتٍ تهون عليها ساعات يومها الطويلة...
و لكن عل سطوري هذه تنير طريق احدهم.
أعزائي:
كتبت Bronnie Ware في كتابها خمس اشياء ندم عليها الراحلون "وهي ممرضة كانت تعمل مع من لا أمل لهم في الحياة بعد فشل الطب في مداواتهم، ولم يتبق لهم سوى بضع أسابيع) أن أكثر ما ندم عليه الراحلون هو:
- "كنت أتمنى لو ملكت الشجاعة لأعيش الحياة التي أردتها لنفسي، لا التي أرادها الآخرون لي".
- "أتمنى لو أني لم أعمل بهذه الكثرة".
- كم أتمنى لو ملكت الشجاعة للتعبير عن مشاعري".
- "أتمنى لو حافظت على علاقتي بأصدقائي".
- "أتمنى لو كنت تركت نفسي لتكون أكثر سعادة".
فبرأيي المتواضع كلنا لدينا ما يسلسل اقدامنا...كلنا فينا قهر... كلنا نصل للنهاية محملين بقليلٍ أو كثيرٍ من الندم.... الأجدى بدل اللهث وراء الماديات و رضى الأخرين... أن نبحث عن شفاءٍ لارواحنا... و أظن أن إسم الجلالة -الشافي- المقصود به ليس اجساداً فقط.... فشفاء الروح اصعب على العبد و ارقى عند الله....
اترك لكم هنا مجالاً لتفكروا.. وتقلبوا داخل قلوبكم، وتبحثوا في ارواحكم عن مخرج... و تجدوا رقعة ارضٍ خصبة صغيرة لتزرعوا فيها بذرة مروج سلامكم الداخلي....
عن المقهورين اتحدث.
أعزائي:
أتمنى لكم قليلاً من الندم، كثيراً من الشجاعة لتعيشوا كما تريدون.
الى أ.: اكسري سلاسل القهر و حلقي ارجوكي.
الى ي.: فلتزداد قوة و رفض لقيود المسؤلية الخاطئة و احساس الذنب ... و لتعش سعيداً.
الى ج.: أدعو الله دوماً أن تستيقظ على امطار من الحظ تغسلك و تغرقك حناناً... من أجل أن تخبر اصدقائك الرائعين ضاحكاً ( اتفك النحس يا اولاد اللاذينا).
شكراً
اخر الكلام:
"فيتأكد لي مع كل صباح أن في هذه الحياة رغم كل شيء، ما يستحق الحياة". - رضوى عاشور من ما وراء الحياة.