رجل الدين يرى فى نفسه الوسيط بين الله والعباد، وهى منزلة رسمها لنفسه، ليظل حاضرا فى المشهد العام، بما يحمله من مزايا، المكانة الاجتماعية والشهرة والاحترام والتقدير، وجمع المغانم.
ظهر ذلك منذ أن توصل المصرى القديم، إلى حقيقة البعث، ووجود حياة أخرى، إذ نجد الاعتقاد حينذاك، بوجود إله يهب الحياة للطيب، والموت للخبيث، ورسم فى البداية بعض المصلحين، صورة ذهنية رائعة للمحاكمة العادلة فى «الحياة الآخرة» افترضوا أن هناك محكمة عدالة كالتى توجد على الأرض يحضر أمامها الأفراد لإصلاح الخطأ، فكان فى بداية الأمر لزاما على الشخص المتهم فقط، أن يحضر أمام المحكمة، فى «الحياة الآخرة» ليُبرئ نفسه.
هذه المحاكمات، أوردها ما يسمى «المسرحية المنفية» كما يقول العالم الأثرى الكبير، جيمس هنرى برستد، فى كتابه «فجر الضمير».. مؤكدًا أن فكرة المحاكمة العامة نشأت فى باكورة العهد الإقطاعى، قبل عام ألفين قبل الميلاد.
واستمر الحال فى الدولة القديمة، وأصبح الشعور بمثل هذه المحاكمة وازعًا خُلقيًا قويًا كما أراده أولئك الإصلاحيون الذين خلقوه، غير أن سلطان تلك المحاكمة ما لبث أن مُسح مبكرا بالعوامل السحرية التى جاءت فى كتاب الموتى الذى ألفه رجال دين «كهنة المعابد» للتربح والكسب منه، إذ زعموا فيه أن يكون وسيلة تساعد الميت على التخلص من العقوبة لمخادعة وتضليل ذلك القاضى الرهيب فى العالم الآخر.
هنا ضلت قدسية الاعتقاد المصرى القديم بالمحاكمة العادلة، فى «الحياة الآخرة» إلى تشويه بالغ، على يد الكهنة «رجال الدين» عندما تدخلوا كوسطاء بين الإله والعباد، بتأليف كتاب يحمل اسم «كتاب الموتى» يعتمد على نصائح للمخطئ فى كيفية تضليله للعدالة، والهروب من المحاسبة..!!
وعندما كان ملوك عصر الأهرامات المبكر، أى فى القرن الثلاثين قبل الميلاد، يعتقدون أنهم سيعيشون عيشة خالدة فى الحياة الآخرة، ما يستلزم، ضرورة المحافظة على جثمانهم، هنا تدخل رجال الدين «الكهنة» لإقناع الملوك على قدرتهم فى المحافظة وصيانة جثمانهم لتظل خالدة بعد الموت، من خلال تعيين عدد كبير منهم للقيام بأعباء الخدمة فى معبد الهرم على الدوام، وقراءة التراتيل وتأدية الطقوس الدينية، فى مقابل الحصول على هبات سخية والتى كان فى وسع سلطة البيت المالك أن يضمن استمرار بقائها مدة طويلة.
فعلى سبيل المثال، هيئة كهنة هرم الملك «سنفرو» بدهشور، حظوا بأوقاف ضخمة أوقفها لهم الملك، كما تم إعفاء كل الكهنة فى مصر القديمة، وذويهم، من كل الرسوم والضرائب الحكومية بمقتضى مرسوم ملكى أصدره الملك «بيبى الثانى» أحد أبرز ملوك الأسرة السادسة، بجانب حصولهم على نسبة من القرابين المقدمة للمعابد تقربًا للإله، علاوة على الوضع الاجتماعى والنفوذ الكبير الذى تمتع به الكهنة.
وفى الأسرة الثامنة عشرة، وعندما بشر الملك أمنحوتب الرابع، الشهير باسم «إخناتون» بديانته الجديدة، الداعية للتوحيد، فى ثورة دينية كبرى، أول من تصدى له بقوة وعنف، كان رجال الدين «كهنة الإله أمون رع» أبو الأرباب فى طيبة، حينذاك، الأقصر حاليا، واضطهدوا ونكلوا به أيما تنكيل، ما دفعه إلى «الهجرة» هربا، من الأقصر، إلى «تل العمارنة» بالمنيا، ليؤسس مدينته العادلة، والتى ساوى فيها بين الأغنياء، والفقراء فى السكن، وبنى معابد الشمس، ليتعبد بديانته الجديدة «التوحيد» لإله واحد أحد.
ورغم ذلك، لم يتركه الكهنة، وقرروا الاستقلال بطيبة، وفرضوا نفوذهم، عليها، وعندما مات «إخناتون» وانتقل الحكم لـ«توت عنخ أمون» أجبروه على العودة إلى طيبة وإعلان استتابته، ولم يمر وقت حتى عثر على جثة توت عنخ أمون، ولا يُعرف حتى الآن، ما إذا كان توت عنخ أمون، قد مات مقتولا، أو وفاة طبيعية..!!
ثم ازداد وتطور نفوذ رجال الدين، عبر العصور التالية، وظهرت جماعات وتنظيمات، كل يحاول الاستئثار بالدين لتحقيق أهداف شخصية وزيادة فى الاستحواذ على المغانم وتصدر المشهد، واستمر الأمر حتى الآن، فتجد رجال الدين يسكنون القصور، ويمتلك كل منهم أسطولا من السيارات الفارهة، وصاروا ضيوفا دائمين فى قصور السلاطين والملوك والرؤساء، باعتبارهم «الوسطاء» بين الله والعباد، وحاملى صكوك الرحمة والغفران، ومفاتيح إدخال الجنة والنار..!!
لذلك فرجال الدين بشكل عام، والمشايخ بشكل خاص، يقفون عقبة كبرى فى طريق تجديد الخطاب والفكر الدينى، وتنقية التراث مما ألصق به من خرافات وخزعبلات تتصادم بعنف مع العقل وكل قواعد المنطق، لأن المشايخ يتصدرون المشهد فى زمن الجهل وانتشار الدجل والشعوذة وانخفاض منسوب الوعى، ومن ثم لا عجب أن مشايخ الأزهر لا يروق لهم تجديد الخطاب والفكر الدينى، واعتبار التراث أمرا مقدسا، الاقتراب منه يقع تحت طائلة التكفير والخروج من الملة والرجم بالحجارة..!!