يتجدد الحوار حول التجديد وتتباين وجهات النظر حوله، جميع المفكرين وعلماء الشريعة متفقون على أن التجديد هو واجب الوقت، وأن أمتنا بأشد الحاجة إليه، ومتفقون كذلك على أن التجديد عامل فاعل فى دفع مسيرة التنمية والتحضر إلى الأمام، لكن هناك بعض الأصوات المنادية بضررورة استبعاد التراث تماما وهدمه كلية حتى تنجح عملية التجديد فينادون بالحداثة المطلقة، ينظرون إلى التراث على أنه مجرد شىء قديم لا نفع فيه بوجه من الوجوه بل يذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك فيرون أن التمسك بالتراث شر محض وضرر كبير.
وفى الحقيقة نحن إذا نظرنا فى ثقافتنا وثقافات العالم من حولنا سواء فى العلوم الإنسانية كالفلسفة والتاريخ والأدب واللغة وغيرها أو فى العلوم التجريبية كالطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والجولوجيا وغيرها، نرى أن هذه العلوم بلا استثناء قائمة على التراكم والتوارث المعرفى وليست منبتة الصلة بتراثها القديم، ولم يقل أحد من علماء الطب مثلا على بعد الهوة ما بين الطب القديم والطب الحديث أن الطب الحديث كان من الممكن أن يكون موجودًا بكل هذا التطور والزخم دون تلك المحاولات التجريبية التى أجراها الفراعنة والإغريق والرومان وغيرهم فى مجال الطب والعلاج وعلى هذا فقس بقية العلوم والمعارف، فعلوم الفلسفة اليوم هى عبارة عن معارف متطورة من تأملات الفلاسفة القدماء، والفلسفةُ الحديثة بفروعها كامنة فى الجذور الأولى للفلسفة اليونانية الأم، وكذلك علوم الأدب والاجتماع وعلم النفس، ففكرة التخلص من التراث أيا كان هى فكرة ساذجة سطحية مستحيلة الحدوث ومستحيلة التطبيق، فكل إنسان منا مهما أنكر أن له أبا فليس معنى هذا أنه فى الواقع ونفس الأمر أنه ليس له أبا، والتعامل مع التراث بطريقة الاستبعاد والعداء والإنكار لن يغير من طبيعة الأمور الواقعية شيئا، ولن يغير من كون أن هناك حقيقة ثابتة ينبغى التسليم بها وهى أن كل ما نحياه ونمارسه من علوم ومعارف أيا كانت هى حلقة فى سلسلة تتطور وسوف تستمر فى هذا التطور، وما نراه اليوم حداثة سوف يكون تراثا غدا، وما نراه تراثا اليوم هو معارف كانت معاصرة وجديدة كل الجدة فى وقتها وزمانها.
الهجوم على التراث عموما وعلى التراث الإسلامى بصفة خاصة والعمل على إلغائه واستبعاده هو فكرة خيالية ومستحيلة، ولم نسمع على كثرة ما نسمع من تجديد فى علوم الطب والفيزياء والهندسة الاستهانة بجهود وبحوث ومعارف جالينوس أو ابن سينا أو سقراط أو إقيلدس أو ابن الهيثم أو جابر ابن حيان أو غيرهم من علماء الإنسانية الذين أسهموا فى هذه العلوم، فالكل يعلم أن العلوم الحديثة كلها مبنية على الأسس والمعارف القديمة وأن التطور لم يكن يعنى يوما ما الهدم ولا الإلغاء، العجيب أن التجديد بهذه الطريقة التى ينادى بها الحداثيون تتشابه إلى حد كبير مع الطريقة التى ينادى بها أتباع السلفية الجامدة التى تنتهج نهج الاجتهاد بهدم التراث ومعطياته وعلومه وأدواته وخبراته المتراكمة عبر العصور، وفرق ما بين الحداثة والسلفية أن الحداثة تهدم كل شىء بينما السلفية تهدم مراحل معينة لكى تقفز إلى القرون الأولى بلا واسطة، فالسلفية هدم جزئى للتراث أما الحداثة فهى هدم كلى له.
وفى حقيقة الأمر فالتراث ليس معصوما بطبيعة الحال وهو نتاج بشرى ليس مقدسا ولا خاليا من الأخطاء شأنه شأن كل نتاج بشرى، لكن ليس من العقل ولا المنطق فى شىء أن ننظر إليه باعتباره سبب المشاكل الفكرية والحضارية التى تعانيها أمتنا الإسلامية والعربية، والتراث ليس سببا من أسباب التخلف الحضارى كما يدعى البعض، حتى الفلسفة الغربية لا تنظر إلى تراثنا الإسلامى بهذه الطريقة السطحية الساذجة بل إنهم استفادوا منه فى معارفهم وعلومهم وفلسفتهم، فإذا سألت مفكرى الغرب عن ابن رشد والفارابى وابن سينا والغزالى والجوينى وحتى عن المحدثين كالبخارى ومسلم وأصحاب السنن وعلماء الجرح والتعديل، فلن تكون إجاباتهم متوافقة مع فكر الحداثيين الذى ينقضون التراث من حيث هو تراث، ولا ينتقدونه نقدًا علميا بناءً يعتمد على استبعاد مفرداته التى لم تعد مناسبة لعصرنا مع استبقاء الأسس والمناهج القابلة لاحتواء مستجدات العصر ومفرداته.
وقد يخطئ بعض المفكرين حين يعتبرون أن القرآن وصحيح السنة جزء من التراث لأننا لا نعتبر أن الكتب المقدسة المنزلة على قلب رسول الله صلى لله عليه وسلم كالقرآن والسنة الصحيحة هى من التراث البشرى بل هو وحى مقدس مناسب لكل زمان ومكان جديد كل الجدة فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو جديد كل الجدة فى عصرنا هذا إلى قيام الساعة بيد أن الله تعالى قد جعل هناك مساحة واسعة فى دلالة النص تسمح بالتفكر والاجتهاد وإعمال العقل فيه بأدوات الاجتهاد، وهذه خصيصة للتراث الإسلامى دون غيره وهو أنه يستند فى مجمله إلى فكرة أنه خادم ومفسر للوحى المقدس ويستند فى استمراريته إلى تلك المزية العظيمة فمعارف التراث وعلومه هى ركن ركين من أركان فهمنا للوحى وتعاملنا معه ولا شك أن هدم التراث بالكلية سيؤدى إلى القطيعة الحقيقية بيننا وبين الوحى، فهل هذا ما يريده من ينادى بقطع صلتنا التامة بالتراث؟