يرحل الإنسان بجسده ويبقى عمله الذي يخلد ذكره أبد الدهر في سطور التاريخ، عمر سينمائى ممتد قطعته فاتنة الشاشة المصرية "نادية لطفي"، والتي صعدت روحها العذبة التواقة إلى رحيق الحرية والكبرياء الذي يناسب موهبته الكبيرة في التمثيل - الثلاثاء الماضي 4 فبراير 2020 - ، رحلت ولديها سيرة فنية لا تكاد تضاهيها سيرة من سِير حسناوات السينما المصرية في الزمن الجميل ، فهي "ليدي السينما المصرية" عن جدارة واستحقاق، بفضل سحر جمالها وأدائها التمثيلي الاحترافي، و"نجمة الأفلام الكلاسيكية" حيث عرفت بأداء جميع الأدوار ولعب كل الشخصيات البسيطة منها والمركبة، إنها الرومانسية الحالمة في "السبع بنات"، وهى الفتاة الشعبية الشرسة في "أيام الحب"، والمناضلة في "جيوش الشمس".
وقد جسدت النسوية بتجلياتها المرعبة في "عدو المرأة" و"للرجال فقط"، وهى أيضا الراقصة المحترفة في "بديعة مصابني" و"الأخوة الأعداء"، والشابة الفاتنة في "أبي فوق الشجرة" والغازية في "قصر الشوق"، والمرأة اللعوب، أو فتاة الليل في "رجال بلا ملامح" و"السمان والخريف"، وهى نفسها "الحلوة نادية لطفي" التي سحرت بجمالها الأخاذ عبد الحليم حافظ برموشها وخشونة صوتها، وهى تتمختر في دلال وتيه أم الكاميرا، ووقع في هواها "الدنجوان" رشدي أباظة، وغرق في عشقها حتى الثمالة في سلسلة أفلام اتسمت بالرومانسية في أجمل معانيها.
كانت سيدة جميلة تشبه تماثيل الرخام الإغريقية في بهاء طلتها، تفوح منها رائحة أرقى العطور الفرنسيه بأريجها الفواح أينما حلت في مكان، سيدة شقراء تتمتع بشفافية الروح إلى الحد الذي تستحى منه كل شقراوات العالم، ورغم اختلاط دخان سيجارها مع خصلات شعرها الذهبى في آخر أيامها، عبر مشاهد مصحوبة بدموعها حفرت إخدودا من ذكريات مؤلمة على وجنتيها، فلم يكن ذلك نحيبا على حالها بقدر ما كان رثاء لبنات جيلها، تلك كانت حال النجمه التى عاشت سنوات طويلة من العز والمجد الفني الذي حلم الجميع يوما بمحاولة الاقتراب من طيفها الندي، وعندما احتاجت إلى قربهم منها تبخروا في غمضة عين.
قليل من المخلصين فقط هم من ظلوا إلى جوارها حاليا بعد أفول النجومية، وبعدما توارت عنها الأضواء، وعزفت عنها عدسات المصورين التي كثيرا ما غاصت في زويا التألق والشهرة التي كانت تطل من خلف الستائر والأساس "الاستيل"، والذي ينتمي في أغلبه إلى العصر الفيكتوري بألقه وبريقه المصاحب لاسطوانات الموسيقى الكلاسيكية، مع بعض من إبداع الشرق العربي بصوت "أم كلثوم وعبد الوهاب وفايزة وحليم" وغيرهم من نجوم الزمن الجميل.
مارست "بولا محمد شفيق" الشهيرة بنادية لطفي العديد من الهوايات بدأت بالرسم، ثم التصوير الفوتوغرافي والكتابة إلى أن اتجهت إلى التمثيل بعد اكتشاف المنتج "رمسيس نجيب" لها، وأسند إليها دور صحافية في فيلم "سلطان"، وتوالت بعده الأعمال والبطولات والأدوار المختلفة التي قدمتها الراحلة والتي تصل إلى حوالي 75 فيلماً، من أشهرها فيلم "الناصر صلاح الدين، السبع بنات، الخطايا، السمان والخريف، أبي فوق الشجرة، بين القصرين، للرجال فقط"، وغيرها من الأعمال التى ماتزال محفوظة في ذاكرة المشاهد المشاهد المصري والعربي حتى الآن.
والذي لايعرفه الكثيرين عن "نادية لطفي" أنها كانت صاحبة مواقف وطنية وسياسية تؤكد صدق انتمائها إلى مصر بصفة خاصة والعروبة بصفة عامة، وذلك من خلال عدة مواقف تكشف عن معدنها الأصيل وحسها السياسي الذي لايقل عن موهبتها في الأداء التمثيلي، فنادية لطفي ليست مجرد فنانة عظيمة وإنسانه نبيلة ومثقفة فحسب، ولكنها كانت مصرية وطنية من طراز فريد جدا، وتاريخها كله حافل بالنضال السياسي، وخير شاهد على مواقفها المشرفة من بداية العدوان الثلاثي علي مصر عام 1956، حيث استغلت "نادية لطفي" حبها للتصوير فسجلت 40 ساعة تصوير في القري والنجوع المصرية لتجمع شهادات الأسري في حربي 1956 و1967، وأعربت عن ضيقها من إهمال نشر صورها مع الجنود على الجبهة آنذاك لرفع الروح المعنوية في صفوفهم.
وحول جرائم الكيان الصهيوني المحتل، قامت بعمل فيلم بعنوان "جيوش الشمس" سجلت من خلاله شهادة الجنود المصابين والجرحى عن الحرب داخل مستشفى القصر العينى مع المخرج الكبير شادى عبد السلام.
كانت "نادية لطفي" مسئولة اللجنة الفنية أيام حرب الاستنزاف، وبحكم هذا الموقع قامت بمبادرات عديدة لدعم قواتنا المسلحة في هذا الظرف العصيب من تاريخ الوطن، فقد قامت بتنظم زيارات على الجبهة لرفع الروح المعنوية لدى الجنود، ومن هنا فقد ضربت أروع الأمثلة في تحريك الرأي العام وتوعية الشعب بظروف قواته المسلحة التي كانت تستعد لمعركة استرداد الكرامة والعزة في العبور العظيم في اكتوبر 1973، وفي أثناء حرب أكتوبر المجيدة أكدت على روحها الوطنية العالية وإيمانها العميق بالجيش بتطوعها فى التمريض، وبالفعل تخلت عن أية ارتباطات فنية وتفرغت للعمل التطوعي، ونقلت مقر إقامتها إلى مستشفى القصر العيني أثناء فترة الحرب بين الجرحى لرعايتهم وشد أزرهم ورفع روحهم المعنوية.
وبعد أن تحقق النصر قالت: "أصبت بانهيار عصبى وهبوط فور سماعى خبر عبور قواتنا المسلحة خط برليف وتحقيق النصر، لأنى لم أصدق وقتها أننا انتصرنا"، وفي حوار سابق لها قالت: "معرفش أحب الرؤساء.. الحكام رجال بلا ملامح، ولا أتعامل معهم بمنطق الحب والكره .. ماليش دعوة بالحاكم أنا برصده وبشوف أعماله، وعلى أساسها أحط له الأرقام وأقيمه"، وذلك إنطلاقا من إيمانها الشديد بأنه لا بد أن يكون للفنان دور وطني في خدمة مجتمعه، وهذا ما أكدت عليه عام 2017، حين استنكرت قرار الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، رغم اعترافها بأنه "غير مفاجئ.
في سبعينيات القرن الماضي، أنتجت "نادية لطفي" فيلم تسجيلي بعنوان "دير سانت كاترين" وأنفقت عليه ما يقرب من 36 الف جنيه مصري وهذا كان مبلغا كبيرا وقتها، وأصابها الإحباط عندما عرض التليفزيون المصري شرائه بألف جنيه فقط، ولأن الوطنية وروح العروبة تسري في دمائها، فقد شكلت وفودا من الفنانين على نفقتها الخاصة لمؤازرة ودعم فدائين الثورة الفلسطينية في اليمن والجزائر، ويذكر أنها قضت أسبوعين كاملين في لبنان عام 1982 أثناء حصار بيروت، وهذا خير دليل على هذا الانتماء، حيث انخرطت في صفوف المقاومة الفلسطينية أثناء الاجتياح الصهيوني لبيروت وطاردها الموت هناك أكثر من مرة، لكنها استطاعت أن تُسجل وتصور بكاميرتها ما حدث أثناء فترة الحصار ونقلته لمحطات تلفزيون عالمية.
ولعل قصة "نادية" مع السفاح شارون تؤكد روحها التواقة للحرية، فيحسب لها أنها كانت ضمن المحاصرين فى بيروت عام 1982، وكان شارون يستعيد قبلها بفترة لمجزرة جديدة ضد الفلسطينيين، ولكن هذه المرة كانت ثأرا شخصيا جراء فقده لإحدى خصيتيه، بعدما أطلق عليه أحد رجال المقاومة النار فأصابه فى مقتل لكنه نجا بأعجوبه وعاد لينتقم لرجولته التى فقدها إلى الأبد، ووسط المشاهد الدمويه وقفت نادية لطفى فى شجاعة تصور وترصد لتفضح جرائم السفاح ورجاله، وتذيع على العالم مافعله شارون بالشعب الأعزل .
ولم تكتفي بفضح جرائم الكيان المحتل، فقد ظللت مقاومة من طراز رفيع في وجه المحتل الغاصب للتراب المقدس في فلسطين، فقد كتبت الصحف والقنوات وقتها "كاميرا نادية لطفي رصدت ما قام به السفاح الإسرائيلي" - يقصد هنا "شارون" - ، بل إن المجتمع الدولي وصف كاميرتها الجريئة بأنها "مدفعا وجهته نادية لطفي إلى صدر "شارون"ذلك المتغرطس بفعل قوة الآلة العسكرية الإسرائيلية التي راحت تستبيح الأرض والعرض والشجر وبيوت الفلسطينين أصحاب الحقوق التاريخية على هذا التراب المقدس.
وفي إطار دعمها للقضية الفلسطينى قامت بزيارة الرئيس الفلسطيني الراحل "ياسر عرفات" أثناء فترة الحصار الصهيوني، وهى بذلك تعتبر الوحيدة التي زارت أبو عمار أثناء فترة حصاره، ولذا كرمها الرئيس الراحل "عرفات" بعد ذلك حين جاء بنفسه إلى منزلها وأهداها "شاله" تقديرا لمواقفها العروبية، وبعد زيارة أبو عمار لها اعتذرت "نادية لطفى" عن دعوة التكريم التى تلقتها من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تقديرا لدورها فى دعم القضية الفلسطينية، وقالت: "يسعدني المشاركة في أي حدث يدعم القضية الفلسطينية التي أراها قضية كل العرب، ولكني فخوره بالتكريم الذي نلته من الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، الذي جاء بنفسه إلى منزلي، واهداني "شاله" وهو تكريم اراه كافيا ولا يعادله أي تكريم آخر"
ولازالت مكتبتها الخاصة تحتفظ في بـ 25 شريط فيديو لوقائع حقيقية عاشتها بنفسها وتنفست فيها الحصار الصهيوني للمقاومة الفلسطينية، وتأكيدا على وعيها بالقضايا العربية والمركزية في تاريخ الأمة العربية، ومن مواقفها الأخرى أيضا حين قررت عام 2003 إعداد كتاب وثائقي يسجل الحروب التى تعرض لها العالم العربي، بداية من عام 1956 وحتى عام 2003، مرورا بحرب 1967، و1973، ويبقى أبرزها الهجمات الأمريكية والبريطانية على العراق، وخصصت الكتاب للحديث عن دور الفن في الأحداث التي تعرضت لها مصر، بالإضافة إلى دور الفن في الحروب التي وقعت على مصر ودور الفنانين في دعم قضايانا الوطنية
وشاءت الأقدار أن تختتم حياتها وتتوج رحلة كفاحها في عام 2019، حيث منحها الرئيس الفلسطيني محمود عباس "أبو مازن" وسام "نجمة القدس"، لتزين صدرها وتعلو فوق جبينها علامات التكريم، وذلك تقديرا لمسيرتها الفنية الطويلة في خدمة السينما والدراما العربية ولمواقفها المشرفة حيال قضايا الأمة العربية، وخص بالذكر منها دعمها الواضح والحقيقي للقضية الفلسطينية، بعيدا عن أي زيف أو رياء، وقد تم ذلك أثناء زيارة "أبو مازن" لها بمستشفى المعادي العسكري
نادية لطفي ليست مجرد ممثلة مصرية عبرت من بوابة الزمن ومضت إلى حال سبيلها مثلها مثل كثيرات برعن في عالم التمثيل وحققن المجد والشهرة في الفن، بل كانت مثال وقدوة للفنان والمبدع الحقيقي وللشخصية الوطني المهمومه بقضايا شعبها وأمتها، والتي قلما يجود الزمان بمثلها، خاصة في أيامنا العصيبة تلك وسط النيران المشتعلة المنتشره للتطبيع والتصهين وفقد للهوية وضياع وتفكك للقومية العربية.
"نادية لطفي" قدوة أكتر من كل الذين يفرضون علينا الآن في غيبة من وعينا، من أولئك الذين تطاردهم فلاشات التصوير، ووسائل التلميع على جناح الزيف في ظل مجتمع يستولي علية حفنة من الجهلاء ومعدومي الموهبة والوطنية، وتقدميهم على أنهم قدوة ومثل لشبابنا، لذا كان ودي أن تنال الراحلة العظيمة من التكريم - في حياتها - بما يوازى موهبتها الفنية العظيمة، وتلك المواقف الوطنية في حياتها، في شكل تكريم رسمي من الدولة المصرية علي رحلة عطاء وحب وإخلاص بلا حدود.
وأخيرا أتمني على التلفزيون المصري والفضائيات الخاصة، أن تقوم بعرض صور نادية لطفي مع الجنود علي الجبهة، فهي تستحق أن تحققوا لها رغبتها القديمة والمستمرة، والتي طالما تمنت وطالبت بأن تعرض صورها وهي تقوم بدعم الجنود ورفع روحهم المعنوية، ولما لا يتم عمل حلقات وحلقات تحكي عنها وعن مواقفها الوطنية المشرفة، فقد أحبت كل اللي حبوا مصر بلا مقابل، ونحن عشقنا فيها مصر التي أحبتها من كل قبلها، وفاضت مشاعرها من أجلها على الشاشة وفي الشوارع وبين جموع الشعب المصري وجنوده البواسل..ألف رحمة ونور عليكي يا حبيبة مصر والعروبة كلها.