محاولات حصر أزمة تجديد الفكر الديني بين جدلية هل يتم الاكتفاء بتجديد الفروع فقط دون الأصول؟ أم يجب أن يتطرق التجديد إلى الأصول؟ أفرغت القضية من مضمونها، فمن يحدد أن كان الأمر المختلف عليه كان أصلًا أم فرع، وتلك جدلية أخرى.
أعلم مسبقًا أن الدخول إلى منطقة العقيدة كالدخول إلى حقل ألغام، يلزم الفرد أن يتحسس كل خطوة يخطوها وإلا زلت قدمه ومات منفجرًا، ينطبق هذا الحذر على أصحاب الرؤية التجديدية وكذلك على المدافعين عن رؤية الثبات على ما وصل إلينا من السلف، وكلاهما يملك من الحجج والأسانيد ما يقوي موقفه، لكن يبقى المجتمع الواقف أمام الفريقين راجيًا الوصول إلى يقين في المسائل الفقهية العالقة والمختلف عليها، هو المتضرر الوحيد.
يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوي (وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها.
أما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول، وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع، فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض. فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟، وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد، ومسائل الفروع هي مسائل العمل، قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا؟، وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل؟، وفي كثير من معاني القرآن وتصحيح بعض الأحاديث، هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق. ووجوب الصلاة والزكاة والصيام وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكر لها يكفر بالاتفاق.
وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية. وكون المسائل قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية؛ لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم وتيقن مراده منه. وعند رجل لا تكون ظنية، فضلاً عن أن تكون قطعية؛ لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته) أنتهى كلام بن تيمية.
العمل على غلق باب الاجتهاد والاكتفاء بما وصل إلينا من تراث السلف الصالح بمثابة انتحار للعقيدة، فلو كان للأمر قدسية ما اجتهد فقهاء المذهب السني بعد عصر الصحابة، لكن ضرورات الحياة مستجدات المسائل، جعلت الأمر لابد منه وإلا تزعزعت الأرض تحت أقدام المسلمين.
ثبات النص المقدس لا يعني جمود الفكر الفقهي ووقوفه عند نقطة معينة، فمن الاعجاز أن منزل النص دعا للتفكر والتدبر، وفتح الباب على مصراعيه للاجتهاد، فكانت مصادر التشريع 11 مصدرا 4 متفق عليها عند جمهور الأمة و7 مختلف عليها، منهما القرآن والسُنة فقط نصي ثابت، والباقي اجتهاد وتفقه وتجديد للدين وليس للفقه فقط، فكيف فطن الفقهاء منذ 10 قرون لضرورة التجديد، ونحن نتقيد بما تركوه لنا من مسائل ونخشى الخوض فيما بعدها، وكأن على رؤوسنا الطير.