تخيل لو أن خلايا جسدك تشيخ ولا تنتحر ولا يَجَّدُ غيرها؟ نعم سيدى، لا تعجب فخلايا أجسادنا حين تشيخ وتهرم "تنتحر" فيما يسمى علميًا بعملية "Apoptosis" كى تفسح المجال لتولد خلايا شابة بديلة أقدر على التحمل، تستطيع أن تواصل الحياة والنشاط والعمل والإنتاج، هكذا فى عملية تصنيع مستمرة، وإلا لبَلَت وفنَت أجسادنا ونحن فى مقتبل العمر.
وإن للإنسان فى جسده لعبرة، فالأعضاء التى تأبى أن تجدد نفسها تشيخ وتهرم ويضطرب أداؤها وقد تتوقف تماماً، ويتداعى لها سائر الجسد ويمرض وتنتهى حياته.
وكذلك المجتمعات؛ فما زالت المجتمعات بخير وفى نشاط وإنتاجية مادام شبابها يتجدد، تتجدد به دماؤها وفكرها وحيويتها ويظل المجتمع شاباً لا تدركه الشيخوخة.
وقد فطن الغرب العجوز لأهمية تجديد المجتمع وديمومة شبابه بعد فوات الأوان، وبعد أن دخل المجتمع الغربى فعلياً مرحلة الشيخوخة، إذ اختل توازنه الطبيعى بزيادة متوسط أعمار الغربيين وقلة مواليدهم، فشرعوا فى استيراد العناصر الشابة المنتجة وتقبلوا فكرة الهجرة وفتحوا لها الأبواب فى تفهم تام، رغم ما فرض ذلك عليهم من تضحيات لاختلاف العقليات والثقافات والسلوك، وقبلوا بعد صراعات طويلة بفكرة زواج الأجانب أياً كان دينهم أو لونهم، ذلك لإدراكهم أهمية الطاقة البشرية .
لفت أولوند النظر لهذا فى زيارته الأخيرة لمصر، ولا ينبغى أن نكون أقل إدراكاً لقيمة مواردنا البشرية ولا أقل تركيزًا منهم فيما تحتاج إليه ولا أقل اكتراثاً بما يصب فى صالح بلادنا.
ولا يغيب عن أذهاننا أن الغرب يحتاج لتسويق بضاعته فى أسواقنا عالية الاستهلاك ويحتاج بصورة متكافئة للأيدى العاملة الشابة الرخيصة، وأنه فى الوقت الحاضر قد فضل أن يتم هذا بمنأى عن المشاكل، إذ لم تعد بلاده تتقبل أو تستوعب الأعداد التى تلزمه للصناعة والاستثمار، ومن ثمَّ كان الوضع الأمثل له أن يتم هذا بعيداً عن بلاده وفى بلادنا؛ بلاد السوق، وعلى أراضينا.
فلا ينبغى لمصر بدورها أن تفوت هذه الفرصة؛ أقصد فرصة التعاون والتقارب المصرى الفرنسى على وجه الخصوص وليس مع غيرهم؛ وأن تستغل فرصة وجودهم بيننا وعلى أراضينا وتحرص فى ظل هذا التقارب على نقل ما يتسنى لها من ثقافة وعلم ومنهج بحيث يكون لالتقاء الحضارات الأثر الأعمق والأبعد والأطول بقاءً من أن يقتصر على الاستثمار فى جانب الاقتصاد والبُنى التحتية وفقط، وأعنى بذلك أن ننقل عملياً الأساليب العلمية الحديثة اللازمة للتنمية البشرية التى تطبقها فرنسا منذ عقود على أسسها من العلم والمنهج العلمى والتطبيق التكنولوچى فأقامت تلك الأسس وتلك المناهج فرنسا التى نتطلع لها.
فخير استثمار تجنيه مصر من التعاون الفرنسى المصرى، هو نقل أسباب الحضارة قبل نقل الحضارة فالاستثمار الحقيقى يكون فى بناء أبناء الوطن وخلق إنسان جديد بكل ما يحمل الإنسان الجديد من مفاهيم وكفاءة علمية وعملية وتوجيه تلك الطاقة الخلاقة؛ الطاقة البشرية، بتدريبها وتعليمها طبقًا للأساليب العلمية الحديثة وطبقاً لمعايير الجودة والكفاءة العالمية، فالإنسان هو الطاقة المتجددة المعمرة المنتجة والعملة الباقية ذات القيمة العالية الثابتة أمام صروف الحياة والقوة الراسخة فى المجتمع التى لن تزايد على بلادها، ولن تسحب استثماراتها أو تنسحب حسب الظروف، ومن ثمَّ كان لزاماً أن يصب الاهتمام الأكبر فى الإنسان استثمار طويل المدى الذى ينتقل عبر الأجيال، وليس الاستثمار قصير المدى الذى أن تعثر لن نستطيع إقامته ما لم نُقِم الإنسان؛ فليكن طموحنا الاستثمار لحد الكفاية لا لحد الكفاف.
قال الله تعالى "فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض"، وقال السيد المسيح عليه السلام "أنتم ملح الأرض".
* أستاذ بطب قصر العينى