في الوقت الذى تتراجع فيه معدلات الإصابة بفيروس "كورونا"، في الصين، يبدو أن ثمة مناطق جديدة حول العالم بات يقتحمها المرض القاتل، في الآونة الأخيرة، وعلى رأسها أوروبا، سواء في بريطانيا أو إيطاليا، والتي تشهد أسوأ انتشار له، في ضوء تقارير حول وفاة 3 أشخاص على الأقل، لتتزايد وطأة التهديدات التي تواجه القارة العجوز، جراء الاقتصاد المتعثر تارة، والتهديدات الأمنية تارة أخرى، بالإضافة إلى المخاوف الصحية الناجمة عن انتشار الفيروس تارة ثالثة، لتصب جميعا في بوتقة السياسة.
انتشار كورونا في أوروبا يطرح العديد من التساؤلات حول مستقبل أوروبا الموحدة، في ظل نظام الحدود المفتوحة الذى يتبناه الاتحاد الأوروبى، والمعروف بـ"فيزا شنجن"، والتي تفتح الباب أمام المتواجدين داخل أيا من دول القارة للتجول في كل أنحائها، دون قيود، خاصة وأن المخاوف المرتبطة بانتشار كورونا، ربما تدفع بعض الدول لاتخاذ إجراءات لحماية مواطنيها، من شأنها إغلاق الحدود، ولو مرحليا، لحين انحسار الفيروس، وهو ما يفقد الكيان القارى أهم مزاياه.
يبدو أن عددا من دول القارة بدأت بالفعل اتخاذ إجراءات، وعلى رأسها النمسا، والتي منعت القطارات القادمة من إيطاليا دخول أراضيها، بينما كان الحديث عن نظام "شنجن" برمته محورا للحديث داخل أروقة الحكومة الإيطالية، وإن كان رئيس الوزراء جوزيبى كونتى آثر تأجيل أي خطوة في هذا الإطار، وهو ما يعكس أن الأمر ربما يكون مطروحا في المستقبل القريب، حال عدم نجاح السلطات الحاكمة في القارة العجوز على احتواء الأزمة.
حالة الانعزال ربما لا تقتصر على العلاقة بين دول القارة، وإنما ربما تمتد إلى داخل الدولة الواحدة في المرحلة المقبلة، مع تواتر الحديث عن عزل بلدات في شمال إيطاليا، عبر منع الدخول إليها، أو الخروج منها، بالإضافة إلى وقف كافة الأنشطة بها، بما في ذلك مباريات كرة القدم، وهو الإجراء الذى قد يتمدد إلى دولا أخرى، حال انتشار الفيروس، لتتحول القارة التي طالما تشدقت بوحدتها لسنوات طويلة، نحو حالة غير مسبوقة من التمزق، ساهمت فيها العديد من السياسات التي تبنتها السلطات طيلة السنوات الماضية، بينما جاء خطر "كورونا" ربما ليكون، في حال تفشيه بصورة كبيرة، بمثابة المسمار الأخير في "نعش" الوحدة المزعومة.
إلا أنه بعيدا عن الإجراءات الرسمية التي اتخذتها الحكومات، يبقى الفيروس فرصة جديدة لمن يمكننا تسميتهم بـ"دعاة الوطنية"، لتكثيف حملاتهم الداعية إلى العودة إلى الجذور الثقافية والسياسية التي تميزهم، بعدما توارت خلف أوروبا الموحدة لعقود طويلة من الزمن، خاصة وأن أزمة "كورونا" لا تعدو أكثر من حلقة جديدة من مسلسل الكوارث الاقتصادية والأمنية التي تواجهها العديد من دول القارة العجوز في السنوات الماضية، جراء الزيادة الكبيرة في تدفق المهاجرين، مما وضعها فى دائرة الخطر.
أزمة "كورونا"، رغم ما تمثله من تهديد قوى للمواطن الأوروبى والسلطات الحاكمة في أنحاء القارة العجوز، تحمل في طياتها فوائد لأعداء الاتحاد الأوروبى، سواء في الداخل أو الخارج، وعلى رأسهم تيارات اليمين المتطرف الداعمة للنزعة الوطنية، وكذلك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذى يعد أحد أكثر أعداء أوروبا الموحدة، حيث يمثل الفيروس القاتل بمثابة تحدى جديد أمام القارة، ليخبر مدى قدرتها على الصمود، خاصة بعد صدمة خروج بريطانيا "بريكست"، والذى دخل حيز النفاذ في يناير الماضى.