عرفت دائما أن الجمال ليس له موطن، وأن بلاده هي كل أرض يقدر أهلها معنى الإبداع ويصنعون منه وله ولأجله كل القيم الجميلة التي تحافظ عليه وتطوره، ولعل حفل "نوبيات" الذي ينظمه جروب «في حب ماريا» النوبي بمكتبة الإسكندرية، والذي أصبح تقليدا سنويا رائعا يقام كل عام، ونموذجا واضحا للتنوع الفني في مصر، ودليل دامغا أن جينات المصري مليئة بالإبداع.
في الواقع لم تكن تلك المرة الأولى التي أحضر الحفل السنوي، لكن المشهد هذا العام كان مختلفا حد الإبهار، وبديعا حد التميز، وأعترف أنني خرجت من هذا الحفل بمفاهيم أخرى عن الجمال، بعدما وجدت أناسا أكثر انفتاحا ورقيا على الفن، وأكثر تذوقا له، يعبرون بطرق صادقة ومبهجة عن حبهم له، بل إن تذوقهم للفقرات الفنية وتفاعلهم معها خلق حالة منفصلة لا تقل جمالا وإبداعا عن الذي كان يقدم على المسرح.
المشهد داخل الحفل كان منظما، الجميع في حالة انسجام تام، الكل يتراقص في تناسق وتناغم وكأنك في حلقة ذكر صوفي، الكل يحمل الأعلام النوبية ويردد كلمات الأغاني الكنزية، وكأنك أمام طقوس روحية لا في حفل غنائي، ورغم أن كلمات الأغاني كانت عصية على الفهم على من هم ليسوا من أهل النوبة، لكن أثرها على النفوس تجعلك تدرك ما تريده أن توصله تلك الكلمات، فالإبداع وإن تغيرت سبله وطرقه يظل جميلا لا يتبدل.
من بين الصفوف خرج رجل وكأن الأرض أنبتته فجأة، ما إن بدأ يتمايل حتى ظل الجميع ينادى باسمه ويتبادلون الرقص معه، وكأنه درويش بين مريديه، هكذا ظهر «عم حمدي» بقامته القصيرة وملامحه الهادئة الباسمة وأخذ يراقص الجميع، الصغار والكبار، وكأنه يوزع سعادته عليهم، يتمايل وهو ممسك بكلتا يديه شاله المعلق على كتيفيه ويتراقص بهدوء مائلا وكأنه يداعب دقات الموسيقى بحركاته جسده الخفيفة.
اللافت أكثر هو اتفاق الجميع على رقصة واحدة وتحية واحدة، الجميع يؤدها وكأنه طقس لا تكتمل أركان «الحفل» بدونه، حيث (تجد الكل يرفع يده ويطرق السبابة بالوسطى) في حركة انسيابية لليد مع الجسد الذي يصعد ويهبط مع حركة الأصابع، وكأن الإيقاعات الموسيقية تتحكم فيهم مثل خرج الدم ودقات القلب.
أدهشتني تلك التحية التي يتبادلها الجميع وشعرت وكأنها علامة اتفق عليها هذا الجمع ليعبر عن سعادته، ظللت سعيدا بها حتى وإن كنت أجهلها تماما، وظل السؤال الذي يراودني طوال الحفل، ما هو سر تلك الحركة التي يتبادلها الجميع في حركة لا إرادية كلما ذهبوا لتحية المطربين، أو أدوها أمام بعضهم تعبيرا عن سعادتهم، حتى عرفت أنها تعنى (أبشر) أى (أحسنت).
عرفت معنى التحية وازداد يقيني أن ليس الفن فقط هو ما يتنوع ويختلف، وإنما تذوقه وطرق التفاعل معه، وإنك كلما تعمقت في المصريين وجدت شعبا طيب الأعراق ممتلئا بالفنون والإبداع، وأن سمار أهل النوبة الجميل لعله لا يعبر إلا عن معدن أصيل وجوهر نبيل.