من نتائج المحور الثانى المتعلق بتحديات التجديد: الجماعات المتطرفة والإرهابية عائق أمام حركة التجديد فى الفكر الإسلامى بما تنهجه من جمود على الموروث.
فالناس بالنسبة للتجديد ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم يرفضه تمامًا، وثانٍ يفرط فيه إفراطًا شديدًا، فهو يرى التجديد أشبه بالشعر الحر الذى لا يلتزم بقافية أو أوزان بحور الشعر، فهم يطلقون لعقولهم العنان فى قبول الأحكام أو رفضها حتى لو تعارض اختيارهم مع الأحكام القطعية، وهناك قسم ثالث يتوسط بين الفريقين، وهم من أشرنا إليهم؛ حيث يرون أن التجديد محله الأحكام الاجتهادية غير القطعية، وكذلك التى لم يرد فيها حكم شرعى فى تراثنا الموروث.
أما الجماعات المتطرفة وكذا الإرهابية فهى جماعات تنتهج الجمود التام على الموروث، وليتها جمدت عليه بعد فهمه الفهم الصحيح الذى يفهمه عامة العلماء، فرغم أن هذا ليس مسلكًا ترضاه الشريعة ولا السابقون الذين اجتهدوا؛ حيث حذرونا من الجمود عليه ووصفوه بالضلال فى الدين والجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين؛ فإن خطره أقل بكثير عن خطر فهمهم الخاطئ للنصوص الشرعية والأحكام المستنبطة منها، فهو على الأقل اجتهاد وفهم صحيح ناسب أزمنته، وقد يبقى مناسبًا لزماننا وإن كان غيره أكثر ملاءمة.
وجمود هؤلاء على الأحكام الموروثة يجعلهم منعزلين عن واقع الناس وغير قادرين على مواكبة العصر وتلبية احتياجات الناس حتى لو كان ما جمدوا عليه نتاج اجتهاد صحيح من السابقين، لكن هذه الجماعات زادت على هذا الجمود الفهم الخاطئ لنصوص شرعنا الحنيف من القرآن الكريم والسنة الشريفة، فهم يفهمون مثلًا آيات القتال على أنها توجب على المسلمين قتال الرافضين لهذا الدين، مما يعنى أن دماء غير المسلمين حتى من أتباع الكتب السماوية مباحة للمسلمين فى فكرهم، بما يعنى أن الناس جميعًا يلزمون باعتناق الإسلام والخضوع لأحكامه ولو كان بقوة السلاح!
وهذا فهم خاطئ تمامًا؛ فلا يخفى على طالب علم قبل العلماء أن ديننا دين السلام، وأنه يرفض إكراه الناس على اعتناقه، والآيات والأحاديث يضيق المقام عن ذكرها، وقد سبق عرضها فى العديد من المقالات، كقول الله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ»، وقوله تعالى: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى دِينِ»، وقوله سبحانه: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»، وغير ذلك كثير. وهى نصوص صريحة وواضحة وقاطعة فى عدم جواز إكراه الناس على الدخول فى الإسلام، وهو ما يعنى أن هذه الجماعات المتطرفة والإرهابية، إما أنها تعانى قصورًا فى الفهم تسبب فى عدم فهم نصوص الشرع فهمًا صحيحًا، وهذا احتمال ضعيف، والأقوى منه أنهم يفهمون النصوص بما يخدم أغراضهم ويناسب أهواءهم، ويقنعون أنفسهم أن هذا هو معنى النصوص، ليس هذا فقط، بل إن هذه الجماعات إن رأوا أن ظاهر النصوص لا يؤدى معناه المباشر إلى ما يرغبون، حرفوها إلى مفاهيم جديدة تخدم توجههم وتسهل مهمة إقناع الناس - وبخاصة الشباب - بقبولهم والانضمام لجماعاتهم!
ولذا، فهم يجعلون الجهاد مرادفًا للقتال، وكأنه لا جهاد من دون قتال، مع أن المعنى اللغوى للجهاد يجعل القتال أحد أفراد الجهاد وليس مرادفه؛ فهو من بذل الجهد والمشقة لتحقيق أمر مرغوب فيه أو إبعاد آخر غير مطلوب، ولذا فالسعى على الرزق جهاد، ومقاومة الفساد جهاد، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر جهاد، ومغالبة النفس وكبح جماحها عن الشهوات جهاد... إلخ، ومقاومة المعتدى لرد عدوانه هو الجهاد القتالى، فالجهاد القتالى فى الإسلام هو جهاد دفاعى لرد المعتدى، وهذا المعنى لا يختلف حوله العقلاء، ولا يمكن أن ينكر علينا أحد من البشر أن ندافع عن أنفسنا إذا اعتدى علينا عدو؛ فالقوانين والمواثيق البشرية تضمن للناس حق الدفاع عن أنفسهم.
وتحريف هذه الجماعات لمفهوم الجهاد هو الذى جعل كلمة الجهاد كلمة مرتبطة بالعنف والاعتداء على الآخرين، وجعل بعض محدودى الثقافة يختصرون الطريق وينادون بحذف آيات القتال وباب الجهاد من المقررات الدراسية، بل بالغ البعض فطالب بحذفها من كتاب الله ذاته، ويدعون أن هذا من التجديد المناسب للزمان، وجهر آخرون بالمطالبة بتعطيل أحكام آيات قطعية فى دلالتها كآيات المواريث بزعم أنها ليست مناسبة للزمان! وهذا جهل مطبق، بل سقوط فى قاع بئر الجهالة السحيق؛ حيث يدرك طويلب العلم الشرعى أن الأحكام القطعية ملزمة للناس فى كل زمان ومكان، وأن تعطيلها إن كانت ثابتة بكتاب الله عز وجل هو رفض امتثال لأحكام الله ورمى للذات الإلهية بما لا يليق من تثبيت أحكام لا يناسبها الثبات وتتجاوزها أحوال الناس، وهذا محال؛ فلم يثبت تاريخيًّا أن حكمًا قطعيًّا كفرضية أركان الإسلام أو تحريم الموبقات لم يناسب زمانًا من الأزمنة، أو أن حكمًا غير الحكم الذى جاءت به النصوص أكثر ملاءمة منه!
ومن المفاهيم التى حرفتها هذه الجماعات، مفهوم الحاكمية؛ حيث يجعلون الحكم خاصًّا بالله تعالى، ولذا فإن كل أنواع الحكم البشرى عندهم منازعة للخالق فى اختصاصه. وزعمهم هذا زعم باطل محض، فمن ثبتت له ولاية من البشر بطريقها الذى يحدده الدستور والقانون، فهو حكم صحيح لا يتعارض مع حاكمية الله، ففى كتاب الله عز وجل: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ»، وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»، وقوله سبحانه: «إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ».
والأحكام التى يحكم بها العلماء على الفروع والنوازل أحكام كأنها نزل بها الوحى؛ فهى مستمدة من قواعد الشرع وهدى نصوصه، فالحكم فيها لله، وتنحصر مهمة الفقهاء فى بذل الوسع لمعرفة هذا الحكم وفق قواعد اجتهادية منضبطة، فإذا غلب على ظنهم حكم معين فيها أعلنوه وكأنهم يقولون: وفق قواعد الاجتهاد، فإنه يغلب على ظننا أن هذا هو حكم الله لو كان وحى من السماء فيها، ولكون الفقهاء لديهم قدرة لمعرفة عين حكم الله فى المسألة - لانقطاع الوحى بموت رسولنا الكريم - قبل منهم كل ما استنبطوه من أحكام فى المسألة الواحدة، وصح امتثال المكلفين لأى حكم منها، ولذا ظهرت قاعدة: «كل مجتهد مصيب» المأخوذة من قول رسولنا الأكرم - صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فأجر واحد»، فترى فى كل هذا إسناد الحكم للبشر، مما يعنى خطأ زعمهم أن حكم البشر منازعة لله عز وجل فى اختصاصه. يضاف إلى ذلك بلاهة هذا الطرح؛ فأحوال العباد لا تستقيم من دون حكم بشرى، سواء أكان حكمًا سياسيًّا أم حكمًا شرعيًّا يحكم به الفقهاء المجتهدون.
وانتهاج هذه الجماعات المتطرفة والإرهابية مسلك الجمود، يعرقل حركة التجديد المنضبط؛ حيث يجعل الناس فى حيرة من أمرهم، فهذه الجماعات تروج لمفاهيم غير المفاهيم التى يطالعونها فى كتب تراثهم والتى يرددها العلماء الثقات، وهذه الحيرة تفقد الشباب خاصة البوصلة الهادية إلى الطريق الصحيح، مما يجعل الأثر المرجو للتجديد الحقيقى المنضبط - من قبل العلماء الحقيقيين ومؤسساتهم - بطيئًا؛ إذ يصبح على كواهل العلماء ليس الاجتهاد لتجديد ما يلزم لمناسبة الأحكام لمتطلبات العصر وثقافات الناس فقط، بل يضاف إلى ذلك عبء تفنيد شبهات الجماعات المتطرفة والإرهابية وكشف زيفها، وتصحيح المفاهيم التى دلسوا معانيها؛ ومن ثم كانت الجماعات المتطرفة وكذا الإرهابية عائقًا حقيقيًّا أمام حركة التجديد، وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.