يتعامل معى الكثير من المحيطين بى على اعتبار أنى أدافع على طول الخط عن الرئيس السيسى، ويتوقع البعض منهم أننى لن أعارض أيا من سياسات النظام الحالى، أى أن كانت صحيحة أم خاطئة، والحقيقة أنى لا انكر تأييدى للرئيس السيسى ولكن على أساس من الثقة وليس على أساس مبدأ السمع والطاعة، فقد عشت سنوات عمرى ومثلى الملايين أثناء حكم الرئيس السابق مبارك، والذى كنت أشعر وكأنه قدر وأمر واقع لا يد لى فيه، أما الآن للمرة الأولى فى حياتى يكون لى دور واضح فى اختيار رئيسى وموقف واضح تجاهه، وبالتالى فإن أخطأ الرئيس فمن منطلق هذه الثقة أعارضه، وذلك حرصا على اختيارى ومسؤوليتى التى أشعر بها للمرة الأولى فى حياتى.
ولكنى تعلمت أن المعارضة فى النظم الديمقراطية لها عدة آليات تعمل بشكل متوازٍ أحيانا أو متدرج فى أحيان أخرى.
والغريب فى الأمر أن معظم القوى السياسية والنخب دائما ما ينادون بنظام ديمقراطى، ولكن عند لحظة الامتحان الحقيقية لا يرى هؤلاء من الديمقراطية سوى آليات الاحتجاج الجماهيرى، وربما يرد أحدهم قائلا إن الممارسات تختلف دائما على أرض الواقع عن النظريات، ويرد آخر أننا ليس لدينا المناخ السياسى الذى يسمح بتطبيق نظريات الديمقراطية على أرض الواقع، أو أن القوى السياسية مقهورة ولا يسمح لها فعليا بالعمل السياسى بحرية، وبالتالى لا تطالبونا أن نحاول ممارسة العمل السياسى وفقا للآليات المتعارف عليها، فى ظل مناخ غير مؤهل لذلك، كل هذه الردود تسمعها من حين لآخر كلما طالبت عدد من النخب أو الأحزاب بممارسة السياسة كما تعلمناها، والحقيقة لا أعرف لماذا هذا الإصرار على اختصار العمل السياسى المعارض فى آلية التظاهر فقط لا غير؟! بل واعتبار حشد الناس هو الفزاعة الجديدة للنظام؟!
والسؤال هنا لماذا يصر هؤلاء على جرنا جميعا مرة أخرى إلى الشوارع والميادين، حيث يجيدون اللعبة التى يخرج الكل منها خاسرين، والأمثلة كثيرة على الإخفاق من قبل، فإذا عدنا للوراء وتحديدا بعد ثورة 25 يناير ومعركة الدستور أولا أو الانتخابات أولا، هنا كان الاختبار الأول، وبدأنا ننادى بالعمل السياسى الحقيقى بعيدا عن المظاهر الاحتجاجية، وحشد القوى المجتمعية للمشاركة فى انتخابات سواء برلمانية أو رئاسية، وبدأت بشكل شخصى وغيرى الكثيرون فى التنبيه من خطورة استمرارنا فى الشوارع وترسيخ مبدأ آلية التظاهر فقط دون أى حشد سياسى على أرض الواقع لخلق قوة شعبية حقيقية تؤمن بالفكر المستنير وتدافع عنه فى طوابير الانتخابات التى كانت تخطط لها القوى المتأسلمة تلك القوى التى نفخت فى نار الإحتجاجات فى الشوارع لتستحوذ هى فقط على العمل السياسى المنظم استعدادا للمعارك الانتخابية التى خسرناها جميعها كقوى مدنية بشكل أو بآخر حتى 30 يونيو.
وعلى الرغم من فشل التجربة بوضوح موجع، مازالت نفس القوى تغامر بمحاولات لتأجيج المشاعر مرة أخرى، مراهنة على آلية التظاهر بعيدا عن الاحتكام إلى آليات الضغط المتعارف عليها، ومنها على سبيل المثال لعبة الانتخابات البرلمانية والتى قاطعتها معظم تلك القوى المعارضة، هذا البرلمان الذى يعد إحدى أهم أدوات لعبة السياسة فى الدول الديمقراطية، ويتعلم الساسة هناك والنشطاء كيف يتم صنع جماعات ضغط مدربة لاستمالة الأحزاب والائتلافات داخل البرلمان للضغط، سواء بمعارضة ملفات وقرارات للحكومات، أو لتأييد سياسات أخرى.
وإذا كنا نتهم الأجيال السابقة من القوى السياسية فى العالم العربى كله أنها فشلت على مدار سنوات طويلة فى خلق جماعات ضغط فى الخارج لاستمالة الساسة والأحزاب هناك للضغط على حكوماتهم لصالح حقوقنا فى عدة قضايا، وعلى رأسها الصراع العربى الإسرائيلى، فالحقيقة أن الأجيال الحالية فشلت حتى هذه اللحظة، ليس فقط فى الخارج، وإنما فى الداخل أيضا.
«فبعد ثورتين» هذه المقولة التى ابتذلنا جميعا معانيها، «بعد ثورتين» كان أولى بالنخب أن يصنعوا جيلا كاملا يعرف أصول اللعبة السياسية بكل آلياتها، بدلا من خلق مجموعات مقتنعة بأن الصوت العالى هو الحل، وتختصر كل النظريات السياسية فقط فى قدرتها على الحشد فى الشوارع، آملة أن هذا هو طريق النجاة، فى حين أن طريق النجاة الوحيد هو بناء كوادر سياسية تجيد لعبة السياسة بكل وسائلها وليس وسيلة واحدة فقط ثبت فشلها فى تحقيق واقع سياسى أفضل على الأقل من وجهة نظر نفس هذه القوى المعارضة الآن.