لم يتوقف دعاة التكفير عند رمى الناس بالكفر، بل زاد بعضهم فطالبوا بهجر الأوطان بدعوى أنها بلاد كفر أشبه بمكة المكرمة قبل الهجرة؛ حيث هاجر منها المسلمون فرارًا بدينهم مرة إلى الحبشة «إثيوبيا»، ومرة إلى المدينة المنورة، وهى الهجرة التى هاجرها رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضوان الله عليهم.
وهذا نوع من المغالطات والجمود الذى تمارسه الجماعات المتطرفة والإرهابية؛ فالهجرة كانت واجبة، وهذا صحيح، وقد حدثت مرتين فى بداية الدعوة لإنقاذ دعوة الإسلام، والحفاظ على مَن آمنوا، وحمايتهم من الأذى الذى كان يصبه كفار مكة على رؤوسهم صبًّا، وليس لمجرد التخلص من الأذى فقط، بل الأهم هو البحث عن أرض صالحة لنشر رسالة الإسلام التى كادت تختنق فى مكة بعد مضى أكثر من نصف المدة التى قضاها رسولنا الكريم فى تبليغ دعوته، وبعد فتح مكة، ورسوخ أقدام المسلمين فى مكة والمدينة، وقدرتهم على صد اعتداءات المشركين، وتأسيسهم دولة المسلمين، ونشر أحكام الإسلام؛ لم يعد للهجرة داعٍ، ليس هذا فقط، بل إن رسولنا الكريم الذى طلب من صحابته الهجرة إلى الحبشة، ثم هاجر معهم إلى المدينة، أعلن بنفسه انتهاء الهجرات لعدم الحاجة إليها؛ مما يعنى أن الهجرة كانت لظروف معينة ولمرحلة محددة، وليست ركنًا من أركان الدين أو واجبًا من واجباته لذاتها.
ومن المغالطات الفجة اعتبار بلاد المسلمين فى عصرنا، وهى تعج بالمآذن والمنابر، ولا يفتقد فيها صوت الأذان للصلاة، وتمتد فيها موائد الإفطار فى رمضان، وتزدحم فيها الساحات بصلوات الأعياد، وغير ذلك من مظاهر عبادات المسلمين؛ أقول إنه من المغالطات الفجة اعتبار بلاد المسلمين فى عصرنا - مع كل ما تقدم - كمكة قبل فتحها؛ فلم يكن المسلم فى مكة قبل الفتح يأمن على نفسه إذا أعلن إسلامه، بل إن رسول الإسلام نفسه لم يكن فى مأمن من أذى المشركين فى مكة حتى فى صلاته لربه عز وجل.
ولذا، كانت هذه النتيجة الحاسمة لقضية الهجرة من الأوطان إلى «أوطان» أخرى هى فى الغالب بؤر لإيواء الإرهابيين، وليست ديارًا للإسلام ولا للمسلمين؛ حيث جاء فى البيان الختامى للمؤتمر: «ما ينادون به - دعاة التكفير - من وجوب هجرة الأوطان، لا أصل له، والأصلُ عكسُه؛ لقول النبى ﷺ: «لا هجرة بعد الفتح»، ومن هنا فإن دعوة الجماعات الإرهابية للشباب لترك أوطانهم والهجرة إلى الصحارِى والقِفار، واللحاق بالجماعات المسلحة فرارًا من مجتمعاتهم التى يصمونها بالكُفر؛ هذه الدعوة مبعثُها الضَّلال فى الدِّين والجهل بمقاصد شريعة المسلمين، والحكم الشرعى الذى يعلنه علماء الإسلام من الأزهر الشريف هو أن من حق المسلم أن يقيم فى أى موضع من بلاد المسلمين أو غيرها متى كان آمنًا على نفسه وماله وعِرضه، ومتمكنًا من أداء شعائر دينه، أما المدلولُ الشرعى الصحيح للهجرة فى عصرنا هذا، فهو ترك المعاصى، والهجرة لطلب الرزق والتعلُّم، والسعى فى عمارة الأرض، والنهوض بالأوطان.
وبذلك تحسم القضية، ويكشف زيفها وانحراف دعاتها عن طريق الدين المستقيم. والتركيز على هذه النتيجة يحصن شباب الأمة من الوقوع فى براثن المتطرفين والإرهابيين وتعريض مستقبلهم للخطر، وربما أنفسهم للهلاك! وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى.