بداية لا أزعم أنني صاحب مصطلح" الدولة المدنية المنقوصة" ، بل يعود لواحدة من تجليات المفكر المصري البارز الدكتور جابر عصفور ، حينما أشار إلى أن بلادنا لم تصل بعد للدولة المدنية الكاملة ، وهو ما يعني أن نص الدستور الصريح بهذا الصدد لازال أمامه الكثير كي يترجم فعليا على أرض الواقع ، وتلك هي احد معضلاتنا المزمنة ، ولا يبدو أن تلك الاشكالية سيتم تفكيكها على الأقل في المدي المنظور يعزز صعوبتها ويزيدها استفحالا ليس لأننا لم نمهد الأرضية والمناخ اللازمين له فحسب بل تركنا الحبل على الغارب لأهل الوعظ والارشاد يخبطون على عقول الناس البسطاء منهم على وجه الخصوص وهنا يكمن الداء دون دواء .
صحيح أن استئصاله ليس هينا البتة ، لكن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة طالما توافرت الإرادة وهي موجودة فالدولة تدفع وبإصرار في هذا الاتجاه ، ولا جدال في أن هناك يقينا من يعرقل فض الاشتباك ــ الذي هو آت لا محالة مهما طال الزمن ، بين ما هو زمني دنيوي وأخروي غيبي ــ ظنا منهم أن بقاء المعيش يصب في صالح المؤمنين والدين معا ، ولكن الحقيقة المرة هي أنهم يريدون تكريس وجودهم واستمرارهم كسيوف مسلطة على رقاب العباد ، يحاصرونهم في منامهم ويقظتهم بأضاليلهم وفتواهم الواهية يحذرونهم من الفسقة أصحاب المذاهب العلمانية الكافرة.
ولعلي أتذكر الآن واقعة مؤسفة ، بل ومخجلة، ففي أثناء الانتخابات الرئاسية قبل عامين ، قال المرشح المنافس رئيس حزب الغد مصطفي موسي أنه في حال انتخابه سيعيد النظر في الكليات العملية والانسانية كالطب والهندسة والاداب وغيرها بجامعة الازهر بحيث تبقى الأخيرة معنية فقط بالعلوم الفقهية والشريعية .
ورغم أنه اقتراح وجيه إلا أنه يحتمل أن يكون له معارضون وأخرون يؤيدونه . لكن بكل أسف خرج رئيس الجامعة آنذاك، وقد اشتاط غضبا كاشفا في كلام متلفز كم هو غيور على الشرع ومكانة من يحتضنه ويحميه ، مطلقا عبارات جارحة ناعتا السيد موسي دون أن يذكره بالأسم ، بالشخص النكرة ، في حين انه كان بمقدوره باعتباره قدوة هكذا يفترض ، أن يعلن اختلافه بدلا من السباب الذي لا علاقة له بالقيم والتقاليد الجامعية المتعارف عليها.
ولأن أحد لم يزجره ويعاقبه لإهانته في النهاية مواطن كل جريمته أنه عبر عن رأيه بكل كياسة وبشكل راق لا غبار عليه ، فطبيعي أذن أن يتصور هذا الأستاذ ، ومعه من هم على دربه بأنهم ذوو قدسية لمجرد انتسابهم للأزهر .
ويحضرني هنا ما قاله الزميل حمدي رزق على خلفية أزمة الكورونا " عندما يتعلق الامر بالعلم فعلي المشايخ أن يتنحوا جانبا .
وبصراحه أجد أن حمدى رزق لديه حق ، فلا يمر يوم بل حتي ساعة إلا ونشاهد ونسمع من يزعق فينا مفتيا هذا يجوز وذاك لا يجوز، وكفانا حشر ديننا وتأويل نصوص كتابه الكريم كي تستوعب كل شئ فهذا لا يفيد بل علي العكس يحدث ضررا بالغا بفهمنا للدين ، فما أحوجنا الآن إلى تجديد الخطاب الدينى وتثقيف عموم الناس حتى يستطيعوا التعايش فى الدولة المدنية المرجوة.