ثمة خيط رفيع جامع لكل من رمضان والجهاد، وهو أن كلا الفرضين يُكسب المسلم قوة الإرادة ويعلمه الصبر والتضحية، أما الصيام فتمرين للمسلم على ترك المباح طوال شهر كامل تمكينًا لترك الحرام بقية العام دون مكابدة فى تركه، جهاد شهر فى رمضان راحة للقلب من إجهاد عام، يعلمنا رمضان الصبر على الطاعة، لنكون أقدر على الصبر عن المعصية، نضحى بشهوة البطن والفرج وفضول اللسان لنفوز بموفور الجزاء من الحنان المنان، حيث قال جل من قائل: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به»، وأما الجهاد فليس أشق على النفس من التضحية بها وإيرادها مورد التهلكة، إنه إجهاد للنفس قبل جهاد العدو، ولكن الإرادة الواعية توجه هذه التضحية الثمينة لحماية المقاصد الشرعية من صيانةٍ للدين وحماية للنفوس وذَودٍ عن الأعراض، الجهاد ظاهره التضييع وباطنه الحفظ والصيانة، وسمو غايته ونبل مقصده مقدم على خطورة الوسيلة إلى تلك الغاية، كما أن ظاهر الصيام الجوع والعطش وباطنه تقوية الإرادة وتحقيق التقوى وهى غاية الغايات، فإذا شاب الصوم أو الجهاد شائبة من رياء فسدت الوسيلة وعُدمت الغاية فى النهاية، فرب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش، ورب مجاهد يحمل سيفه رياء وسمعة حتى يقتل وهو من أهل النار.
ورمضان فى تاريخ المسلمين كان مجمع الحسنيين وملتقى الإرادتين: إرادة تحقيق التقوى وإرادة حفظ المقاصد الشرعية، فيه كانت أعظم انتصارات الأمة قديمًا وحديثًا من لدن غزوة بدر الكبرى التى كانت حجر الأساس لدولة الإسلام، ولولاها لما قامت للإسلام دولة، وانتهاء بفخر البطولات العربية والإسلامية، حرب أكتوبر المجيدة التى أعادت للأمة ثقتها وتوازنها أمام قوى الاحتلال الغاشمة والتى لولاها للبثنا فى ذل النكسة وانكسار الذات إلى ما شاء الله، وإذا أردنا بحث السر وراء اقتران رمضان بانتصارات الأمة وجدناها فى العلة وراء الفريضتين التى ذكرناها وهى قوة الإرادة، فمعلوم أن الجهاد يحتاج إلى عدد وعدة وعتاد وفير، فإذا كان الجيش فى قلة من العتاد – وتلك كانت سمة المعركتين بدر وأكتوبر اللذين وقعا فى شهر رمضان - افتقر رجاله إلى صبر وإرادة ترجِّح كفتهم على كفة عدوهم وتجعل النصر حليفهم، فالنصر جزاء الصبر كما وعد الله سبحانه وتعالى: «فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» «الأنفال: 66».
إن الصبر عدة الصائم، وثمرته قوة الإرادة، وهى عدة المجاهد فى سبيل الله ومفتاح نصره على عدوه، فهم ذلك أعظم قادة الإسلام، وسجله التاريخ لنستلهم منه العبرة ونتزود خير الزاد، فحين كتب أبوعبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب، يذكر له جموعًا من الروم وما يتخوف منهم، كتب إليه عمر بن الخطاب: «أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة، يجعل الله بعده فرجًا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وأن الله تعالى يقول فى كتابه «يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون» «آل عمران: 200».
الظاهر أن رمضان كان تميمة التوفيق للأمة الإسلامية وطاقة القدر التى تحققت بها المعجزات العسكرية وسجلت أروع انتصاراتها، كما أنه تميمة التوفيق للفرد المسلم إذا صامه حسبة لله سبحانه، فإنه حرى أن ينتصر بقوة إرادته على الشهوات وحب الرياء والأثرة وشح النفس، وإن تحقيق هذا النوع من الانتصار هو الأساس الذى تنبنى عليه كل الانتصارات الأخرى، والانهزام فيها مؤذن بالانهزام فى سائر معاركه.